د. عمر حماد عضو هيئة علماء فلسطين
عن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عَنْهُ، قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا» ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ صَدَقَكُمْ» ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المنافِقِ، قَالَ: ” إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ” رواه البخاري ومسلم

الشرح والتعليق
1- هذا الحديث يدل وجوب كشف الجاسوس، وهتك ستره، رجلا كان أو امرأة، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، أو في ستره مفسدة للمسلمين.
2- عانت الأمة الإسلامية -ولا تزال- من أفراد ضعيفي الإيمان، وضعوا أيديهم بأيدي أعداء الله ورسوله، وسهلوا عليهم الفتك بالمسلمين، ودلوهم على عورات المسلمين، ونقلوا لهم الأخبار، وأماكن تواجد القيادات على مختلف المستويات، وأماكن تخزين السلاح، وحبس الرهائن، وقد تمكن الصليبيون والتتار واليهود من رقاب المسلمين بسبب هؤلاء الجواسيس الخونة، هذا وقد وجد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الناس سواء أكانوا من المنافقين أم من المؤمنين المخلصين.
3- قوله (روضة خاخ) هو موضع بين مكة والمدينة، وحاليا يقع على يمين طريق الهجرة الواصل بين مكة والمدينة، وبينه وبين ميقات ذو الحليفة (أبيار علي) 9 كم.
4- قوله (ظَعينة) بفتح الظاء وكسر العين، وهي المرأة في الهودج ولا يقال ظعينة إلا وهي كذلك لأنها تظعن بارتحال الزوج، وهذه المرأة المسافرة كان اسمها سارة، وكانت مغنية.
5- قوله (تَعَادَى بنا خيلُنا) يجوز أن يكون بلفظ الماضي بمعنى تباعِد وتجارى، وبالمضارع (تتعادى) بحذف إحدى التاءين .
6- قوله (فأخرجته من عِقَاصها) بكسر العين، وهو الشعر المضفور(جدُّولة) ويقال هي التي تتخذ من شعرها مثل الوقاية وكل خصلة منه عقيصة والعقص: لَيُّ خصلات الشعر بعضه على بعض (جدايل)
7- قوله (فأتينا به) أي بالكتاب ويروى (بها) أي بالصحيفة.
8- قوله (إلى أناس من المشركين) وهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل.
9- قوله (ملصقا في قريش) أي مضافا إليهم ولست منهم، وأصل ذلك من إلصاق الشيء بغيره ليس منه، ولذلك قيل للدعي في القوم ملصق، وقيل معناه حليفا ولم يكن من نفس قريش وأقربائهم.
10- قوله (إذ فاتني ذلك) كلمة إذ بمعنى حين، وذلك إشارة إلى قوله لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأمولهم.
11- قوله (أن أتخذ يدا) أي نعمةً ومنّةً عليهم.
12- قوله (هذا المنافق) إنما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اسم النفاق على حاطب لأنه والَى كفار قريش وباطَنَهم، وإنما فعل حاطب ذلك متأولا في غير ضرر لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلم الله صدق نيته فنجّاه من ذلك.
13- قال الطبري: كان هذا من حاطب هفوةً، وقد قال – صلى الله عليه وسلم – فيما روته عمرة عن عائشة (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) فإن ظن ظانٌّ أن صفحَ الرسول صلى الله عليه وسلم عن حاطب لأن الله اعلمه انه صادق، فمَن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم ذلك، وأحكام الله عز وجل في عباده إنما تجري على ما ظهر منهم لا بما يظن.
14- قوله (لعل الله) كلمة (لعل)استعملت استعمال (عسى)، لأن لعل تفيد الترجي وتوقع حدوث ما بعدها، وعسى تفيد تحقق وقوع ما بعدها، قال النووي: معنى الترجي فيها راجع إلى عمر رضي الله تعالى عنه لأن وقوع هذا الأمر محقق عنده – صلى الله عليه وسلم – وقوله (وما يدريك) على التحقيق بعثًا له على التفكر والتأمل.
15- قوله (قد غفرت لكم) معناه أن الغفران لهم في الآخرة، ولو توجّه على أحد منهم حدٌ أو عقوبة استوفي منه.
16- ذكر الإمام بدر العيني في كتابه (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) عدة فوائد من الحديث منها:
أولا: فيه هتك سر الجاسوس رجلا كان أو امرأة إذا كانت في ذلك مصلحة أو كان في الستر مفسدة.
ثانيا: حكم الجاسوس:
(1) قال الداودي الجاسوس يقتل، وإنما نُفِىَ القتل عن حاطب لما علم النبي – صلى الله عليه وسلم – منه،
(2) مذهب الشافعي وطائفة أن الجاسوس المسلم يعزر ولا يجوز قتله، وإن كان ذا هيئة عفي عنه لهذا الحديث.
(3) وعن أبي حنيفة والأوزاعي يوجع عقوبة ويطال حبسه،
(4) وقال ابن وهب من المالكية يقتل إلا أن يتوب.
(5) وعن بعضهم أنه يقتل إذا كانت عادته ذلك وبه قال ابن الماجشون.
(6) وقال ابن القاسم يضرب عنقه لأنه لا تعرف توبته وبه قال سحنون.
(7) وقال أصبغ الجاسوس الحربي يقتل (جاسوس غير مسلم وليس بينا وبينه معاهدة سلام) والمسلم والذمي يعاقبان إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان.
ولا شك أن الجاسوس يقتل إذا وقعت مجازر بسبب خيانته، وحصلت منه خسارة للمسلمين، ليكون عبرة لمن اعتبر.
ثالثا: قال الطبري: إذا ظهر للإمام رجل من أهل الستر أنه قد كاتب عَدُوًّا من المشركين لينذره مما أَسَرَّه المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن معروفا بالغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فِعلِهِ هفوةً وزلةً من غير أن يكون لها أخوات: يجوز العفو عنه كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله.
رابعا: وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة ودلائلها: وذلك إعلام الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطب إلى قريش ومكانها الذي هي به وذلك كله بالوحي.
خامسا: فيه هتك ستر المريب وكشف المرأة العاصية.
سادسا: فيه أن الجاسوس لا يخرجه تجسسه من الإيمان، أي أنه لا يكون كافرا بسبب تجسسه ونقله الأخبار، ولكنه يعاقب.
سابعا: فيه جواز غفران ما تأخر من الذنوب قبل وقوعه، فالله سبحانه غفر لأهل بدر الذنوب التي سيفعلونها.
ثامنا: فيه جواز تجريد العورة عن السترة عند الحاجة قاله ابن العربي.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
مع تحيات د. عمر حماد
الجمعة 4/10/2024م
الموافق 30/ربيع الأول/1446هـ