د. عمر حماد  عضو هيئة علماء فلسطين

عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يُقْسِمُ قَسَمًا: إِنَّ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] «إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ»رواه البخاري ومسلم.

وقد جاء تفصيل تلك المبارزة في كتب السيرة النبوية كالآتي:

“وابتدأت الحرب بالمبارزة، فخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم فتية ثلاثة من الأنصار، فقالوا من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار ، فقالوا: أكفاء كرام، ولكن أخرجوا إلينا أكفاءنا من بني عمنا،  وذكر ابن كثير في كتابه السيرة النبوية أن النفر من الأنصار لما خرجوا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لأنه أول موقف واجه فيه الرسول أعداءه، فأحب أن يكون أولئك من أهله وذوي قرباه، فأمر الأنصار بالرجوع وقال: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» »

، فبارز عبيدة- وكان أسنّ الثلاثة- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة وعلي فقتل كل منهما صاحبه، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا بضربتين؛ كلاهما أصاب الاخر، فكرّ حمزة وعلي فأجهزا على عتبة، واحتملا صاحبهما وجاءا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفرشه قدمه، فوضع خده عليها وقد طاب نفسا بذلك، ثم قال:

يا رسول الله، وددت والله أن أبا طالب كان حيا ليعلم أنّا أحقّ منه بقوله:

ونسلمه حتى نصرّع حوله … ونذهل عن أبنائنا والحلائل.

ثم لم يلبث عبيدة أن توفي بعد من جراحته، فقال رسول الله: «أشهد أنك شهيد». وفي شأن هذين الفريقين المتبارزين نزل قوله تعالى: (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).

الشرح والتعليق

  1. هذا الحديث يدل على جواز المبارزة في الإسلام والخروج للمبارزة بإذن الإمام والقائد وصاحب الراية.
  2. قال الإمام أبو بكر ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من العلماء على أن للمرء أن يبارز ويدعو إلى البِراز بإذن الإمام غيرَ الحسن البصري، فإنه كرهها، هذا قول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وأباحته طائفة ولم يذكروا إذن الإمام ولا غيره، وهو قول مالك والشافعي، فإن طلبها كافر يستحب الخروج إليه، وإنما يحسن ممن جرب نفسه ويأذن الإمام، وسئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ قال: ذلك إلى نيته، إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى فأرجو أن لا يكون به بأس، قد كان فعل ذلك من مضى، وقال أنس بن مالك: قد بارز البراء بن مالك مرزبان فقتله، وقال أبو قتادة: بارزت رجلا يوم حنين فقتلته، فأعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سلبه وليس في خبره أنه استأذن فيه.
  3. العلة في كراهة بعض العلماء الخروج للمبارزة دون إذن الإمام أو القائد أنه قد يكون ضعيفا أو مغترا بنفسه فيقتل فيكون في ذلك توهينا للمسلمين وتجرئة للمشركين عليهم.
  4. والعلة لمن أجاز المبارزة مطلقا دون إذن الإمام أو القائد أنه جهاد، وإذا كانت نيته في المبارزة رفع راية الإسلام فهذا من أعلى الدرجات، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه نهى عن ذلك في أي غزوة من غزواته، بل كان بعضهم يبارز دون إذن كما ذكر سابقا عن البراء بن مالك وأبي قتادة.
  5. إذَا خَرَجَ كَافِرٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ، جَازَ رَمْيُهُ وَقَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ لَا عَهْدَ لَهُ ، وَلَا أَمَانَ لَهُ ، فَأُبِيحَ قَتْلُهُ كَغَيْرِهِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ جَارِيَةً بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ خَرَجَ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ لَا يُعْرَضُ لَهُ ، فَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الشَّرْطِ.
  6. إذَا خَرَجَ كَافِرٌ يَطْلُبُ الْبِرَازَ فخَرَجَ إلَيْهِ أَحَد المسلمين يُبَارِزُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعِينَهُ عَلَيْهِ سِوَاهُ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، فَإِنْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُ تَارِكًا لِلْقِتَالِ ، أَوْ مُثْخَنًا بِجِرَاحَتِهِ ، جَازَ لِكُلِّ أَحَدٍ قِتَالُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا صَارَ إلَى هَذِهِ الْحَالِ فَقَدْ انْقَضَى قِتَالُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى صَفِّهِ وَفَّى لَهُ بِالشَّرْطِ ، إلَّا أَنْ يَتْرُكَ قِتَالَهُ ، أَوْ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحِ ، فَيَتْبَعَهُ لِيَقْتُلَهُ ، أَوْ يُجْهِزَ عَلَيْهِ ، فَيَجُوزَ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَاتَلُوهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَنَعَهُمْ إنْقَاذَهُ فَقَدْ نَقَضَ أَمَانَهُ .
  7. وَإِنْ أَعَانَ الْكُفَّارُ صَاحِبَهُمْ ، فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعِينُوا صَاحِبَهُمْ أَيْضًا ، وَيُقَاتِلُوا مَنْ أَعَانَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقَاتِلُونَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَنْجَدَهُمْ ، أَوْ عُلِمَ مِنْهُ الرِّضَا بِفِعْلِهِمْ ، صَارَ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ ، وَجَازَ لَهُمْ قَتْلُهُ .

لأَنَّ حَمْزَةَ ، وَعَلِيًّا أَعَانَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ عَلَى قَتْلِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، حِينَ أُثْخِنَ عُبَيْدَةُ

  •  وأختم بكلام ابن المناصف في كتابه الرائع (الإنجاد في أبواب الجهاد) حيث قال: والأظهَرُ – إن شاء الله تعالى – أن يُعانَ المسلِمُ إذا خُشِيَ عَلَيْهِ الهَلاكَ ، عَلَى كُلِّ حالٍ، يُعينُهُ كُلُّ مَن يُمكِنُ لَهُ ذلك مِمَّن بارَزَ مَعَهُ، أو كانَ في الجَيْشِ، وَسَواءٌ شَرَطَ الكَافِرُ أَن لا يُعِينَهُ أَحَدٌ أم لَم يَشتَرِط ، وَلا وَفاءَ في مَعصِيَّةٍ، إلا أَنَّهُ إِن قَدَرَ فِي إعانَتِهِ عَلَى تَخليصِهِ مِنَ القِرنِ إِذا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِن غَيرِ التَّعَرُّضِ لإصابَةِ الكَافِرِ، لَم يَنبَغِ التَّعَدِّي عَلَيْهِ. وَإِن لَم يَكُن ذلك إلا بِالحَملِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَبْلُغُ مِن ذلك إلى حَيثُ يَكُونُ فِيهِ خَلاصُ المسلِمِ، وَلَو أفضى إلى قَتلِ مَن بارَزَهُ . قَالَ الله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وَقَالَ تَعالى : ( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) . وَخَرَّجَ مُسلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسولَ الله قَالَ : ” المسلِمُ أخو المسلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ ” ، وَفِي رِوايَةٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ – : ” لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ” وَفِي حَديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَن جَدْهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ : المؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَن سِواهُم ” وَفِي حَديثِ أبي سعيد : ” سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ” مَن رَأَى مِنكُم مُنكَراً فَلَيُغَيْرُهُ بِيَدِهِ ” وَلا مُنكَرَ أَعظَمُ مِن قَتلِ المسلِمِ ظُلماً. فَأَمَّا مَن لَم يَخشَ الهَلاكَ عَلى المسلِمِ المبارِزِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُم بِحالِ ،كذلك فَعَلَ المسلِمُونَ يَومَ بَدْرٍ .

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء

والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين

مع تحيات د. عمر حماد

الجمعة 23/8/2024م

الموافق 19/صفر/1446هـ