د. عمر حماد عضو هيئة علماء فلسطين
عَنْ أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرِ أَخِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا»، وَكُنْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ أَوْ عَشَاءَهُمْ أَكَلُوا التَّمْرَ وَأَطْعَمُونِي الْخُبْزَ؛ بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ. رواه الطبراني في الكبير والصغير، وإسناده حسن كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد.
الشرح والتعليق
- في هذا الحديث دليل على وجوب معاملة الأسرى بالإحسان.
- رغم كون القتال عملية تزهق فيها الأرواح وتجرح الأبدان، ويقصد فيها إلحاق أنواع الأذى بالأعداء، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرع لأمته آدابا يتحلون بها قبل الحرب وأثناءها وبعدها .. فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال :(كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا و لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ) رواه مسلم .
فإذا وضعت الحرب أوزارها ، ووقع المقاتلون من الكفار أسرى في أيدي المسلمين ، راعى النبي – صلى الله عليه وسلم – معاني الرحمة والكرامة الإنسانية التي تراعي مصلحة الدولة المسلمة وحقوق الأسرى ، والتي لم يبلغها القانون الدولي الإنساني المعاصر ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( استوصوا بالأُسَارَى خيرا ) رواه الطبراني .
يقول ابن القيم في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأسرى : ” .. كان يَمُنّ على بعضهم (يطلق سراحهم بلا فداء) ، ويقتل بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال ، وبعضهم بأسارى المسلمين ، فعل ذلك كلّه بحسب المصلحة . - قوله (استوصوا بالأسارى خيرا) أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بعد معركة بدر بمعاملة أسرى المشركين معاملة حسنة، وقال لهم: ( استوصوا بالأسارى خيرا) وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، فقد امتثل الصحابة – رضوان الله عليهم – وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضربوا أروع الأمثلة في معاملة الأسرى ..
وحديثنا هذا أحد الأدلة على ذلك.
ويقول أبو العاص بن الربيع : ” كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً ، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل ، والتمر زادهم ، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليّ ” ،
وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قوله : ” وكانوا يحملوننا ويمشون ” ..
وعاد أولئك الأسرى إلى مكة وكل حديثهم عن كرم أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ، وعن محبته وسماحته ، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى ، والإصلاح والخير ..
وقد تركت هذه المعاملة الحسنة أثرها في قلوب هؤلاء الأسرى ، فأسلم كثير منهم في أوقاتٍ لاحقة ، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر بعد وصول الأسرى إلى المدينة ، وأسلم معه السائب بن عبيد .. - وعندما تمت الصفقة وبدأ خروج الأسرى الإسرائيليين رأينا كيف كان التعامل الكريم والحسن معهم، وكيف تأثر القريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم، وحتى الأسرى الإسرائيليين بهذا التعامل الرائع، مما اضطر اليهود إلى إيقاف صفقات التبادل هذه حتى لا يتأثر الرأي العام الإسرائيلي والعام بصورة المجاهدين الرائعة من حسن التعامل وكرم الضيافة.
- قوله (بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ) يدل على سرعة استجابة الصحابة الكرام لتنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون تردد، وهذا الأصل في المسلم كما قال تعالى(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)
- أما بالنسبة لمصير أبي عزيز فأذكره من باب الفائدة: يقول أبو عزيز مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال شد يديك به فان أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك، فسألتْ أمُّه عن أغلى ما فدى به قرشيٌ أقاربه، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها.
- وقد اختلف أصحاب التراجم والسير في إسلام أبي عزيز، فبعضهم أثبت إسلامه وصحبته مثل (خليفة بن خياط)، وابن عبد البر الذي قال في كتابه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب): قيل: اسم أبي عزيز هَذَا زرارة، له صحبة. وسماع من النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ ورواية، حدث عنه نبيه بْن وهب يعد فِي أهل المدينة. وزعم الزُّبَيْر أنه قتل يوم أحد كافرًا، وذلك غلط، والله أعلم. ولعل المقتول بأحد كافرًا أخ لهم، قتل كافرًا يوم أحد. وأما مصعب بْن عمير فقتل بأحد مسلما، وأبو بزيد بْن عمير أخوهم كذلك. ذكره ابْن إِسْحَاق وغيره، وذكره خليفة بْن خياط- فِي أسماء الصحابة من بني عبد الدار.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
مع تحيات د. عمر حماد
الجمعة 19/4/2024م
الموافق 10/شوال/1445هـ