خاص هيئة علماء فلسطين
10/5/2025
نايف قرموط
في ظلّ الكعبة، حيث القداسة والسكينة، لا يبدو من الطبيعي أن يُروى الألم. لكن خباب بن الأرت رضي الله عنه، لم يأتِ بقدمين عاديتين، بل جاء بجسد أكلته النار، وروح نزفتها السياط. اقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبردة تحت رأسه، فسأله بصوت لا تخطئه الدمعة: “ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟”
سؤال لم يكن خيانة لصبرٍ أو هروبًا من ثبات، بل كان وجعًا متكدسًا في صدر عبدٍ طاهر، سُحِل على الجمر، وأُحرقت عظامه لأنه قال “ربي الله”.
ولم يكن الجواب إلا على قدر الرسالة: “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون.” [رواه البخاري – صحيح]
كانت كلمات النبوة تضع حدًا زمنيًا بين الألم والنصر. لم يُنفِ الألم، ولم يُقلّل من الظلم، لكنه أعاد ضبط البوصلة: الصبر طريق، والنصر وعدٌ مؤجل.
واليوم… في غزة. لا ظلّ لكعبة يُبثّ فيه الأنين، لكن ظلّ الأقصى يعانق السماء من تحت الركام. لا خباب واحدًا يُعذّب، بل خبابون كُثر. في كل بيت طفل، في كل شارع أمّ، في كل حجر روح، كلها تصرخ من تحت الحصار والقصف والمجاعة والخذلان. أطفال يُقصَفون لا لشيء، إلا لأنهم يتمسكون بالمفاتيح الصدئة التي بقيت من بيوت أجدادهم. نساء يدفنَّ أبناءهن بأيديهن، ويكبرن على الركام. رجال لا يملكون سوى حجارة وصدورٍ عارية، لكنهم أشدّ بأسًا من جيوش الأنظمة.
فلو جاء أهل غزة إلى رسول الله اليوم، وقالوا: “ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟” هل سيقول: “ولكنكم تستعجلون”؟ كلا. سيقول لهم: “أنتم على الثغر الذي شُرّف بالرباط. أنتم لستم كخباب؛ أنتم جيل حمل السلاح، وربط الجوع بالشهادة، وصبر على خيانة القريب وخذلان الحليف. والله ليُتمّن الله أمركم، ولو بعد حين.”
في السياسة، لا أحد يسمع وجع غزة، إلا حين يريد استثماره.
لكن في حديث النبوة، كل قطرة دمٍ فلسطينية تُرصَد في ميزان الله، وكل نَفَسٍ في الحصار، هو آية تُتلى في سجلّ الصابرين.
غزة ليست قضية، بل اختبار أخلاقي لأمة بأكملها. وغزة لا تستعجل النصر، بل تستعجل الأمة أن تفي بوعودها، أن تُعيد ترتيب شرفها، أن تفهم أن هذا الدم هو مرآتنا، وأن الركام الذي يتساقط كل صباح، يتساقط على ما بقي من إنسانيتنا.
وإن غدًا لناظره قريب…
والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.