خاص هيئة علماء فلسطين
د. إبراهيم مهنا
5/7/2023م
إن من سمات الثقافة الانتشار والشيوع والقبول والثبات، فلا يصح إطلاق مصطلح ثقافة على ما كان محدود الانتشار لا يحظى بالقبول، وبخصوص مفهوم المقاومة فإن هناك إجماعا عالميا على حق الدول والجماعات والأفراد عند تعرضهم لعدوان أو احتلال في تبني المقاومة وممارستها بكل أشكالها المادية والمعنوية، في مختلف الجوانب كالفكرية والأدبية والعسكرية والسياسية والمالية، فالمقاومة هي ردة فعل مشروعة لمواجهة فعل غير مشروع، وهذا من المشترك الإنساني الذي لا خلاف عليه، لتوافقه الكامل مع الفطرة البشرية.
ومن خلال استحضار تاريخ القضية الفلسطينية فإننا نجد أن مفهوم المقاومة وتجذره في المجتمع يمر بمراحل ضعف وقوة تؤثر في مدى فاعليتها، لقد مارس الفلسطينيون المقاومة عام 1948 ضد العصابات الصهيونية المدعومة من الاحتلال البريطاني الذي سلمهم الأراضي وسهل لهم التسليح والتموين وتأمين الرجال عبر التغاضي عن الهجرات اليهودية غير المشروعة إلى فلسطين، وكانت مقاومة قوية راسخة في الوجدان الفلسطيني ولكنها ضعيفة الإمكانات المادية وافتقدت للدعم العربي الجاد، فكانت النكبة واحتلال نحو 78% من فلسطين وإعلان دولة الكيان الغاصب (إسرائيل) التي مارست المجازر البشعة في حق المدنيين لإجبارهم على الرحيل من قراهم ومدنهم. ثم جاء عام 1967 فيما عرف بعام النكسة لتستكمل (إسرائيل) احتلال فلسطين بل وأجزء كبيرة من دول الطوق مصر وسوريا والأردن ولبنان.
ولأن ثقافة المقاومة لا تموت، نعم قد تضعف وتتوعك لعدة أسباب، لكنها تبقى بذرة حية قابلة للنماء والاستنهاض عند أول قطرة مطر لتزهر وتثمر من جديد، وقد تنامت في هذه الفترة خاصة بعد الانتصار الكبير في معركة الكرامة عام 1968 المقاومة المسلحة ووجدت حاضنة شعبية عريضة خاصة في مخيمات اللجوء في الداخل والخارج، وتنوعت أساليب المقاومة فظهر أدب المقاومة من شعر ونثر وفن بمختلف صوره، وازدهرت أناشيد الثورة الفلسطينية وانتشرت كلماتها على ألسنة الصغار والكبار، وتجذرت ثقافة المقاومة في المجتمع الفلسطيني بشكل غير مسبوق، وكان الالتفاف العربي الرسمي والشعبي حول المقاومة عاملا رئيسا في تنامي هذه الثقافة في الأمة بأسرها، فضلا عن حضور الدعم الدولي خاصة من الدول الأفريقية وأمريكا اللاتينية ومجموعة دول عدم الانحياز، ليستمر هذا الزخم حتى حرب أكتوبر 1973 التي أثبتت إمكانية دحر الاحتلال الصهيوني.
ولكن سرعان ما بدأ الشرخ في العالم العربي بعد جنوح النظام المصري في عهد السادات إلى الصلح المنفرد مع (إسرائيل) وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978 وبداية عصر التطبيع العربي. وبعدما ظن الاحتلال أن الشعب الفلسطيني قد استسلم للأمر الواقع ورضخ لإرادة المحتل، لما رآه من ضعف واضح في عمليات المقاومة، بدأت مرحلة قوة جديدة للمقاومة، فتفجرت الانتفاضة الأولى في 8 ديسمبر 1987 وانتشرت في عموم فلسطين ولم تهدأ إلا في عام 1991، وهو العام الذي بدأت فيه المنظمة مفاوضاتها السرية مع الصهاينة في أوسلو بينما كانت المفاوضات العلنية في مدريد مجرد خداع، وكان الشرخ العربي قد اتسع بعد الاحتلال العراقي لدولة الكويت في 2 أغسطس 1990، لتتوقف الانتفاضة الأولى تماما بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو المشؤوم في 13 سبتمبر 1993[1]، وليتبعه بعد ذلك بسنة واحدة التطبيع مع الأردن وتوقيع اتفاقية وادي عربة في 26 أكتوبر 1994، وفي هذا العام بدأ التطبيع السياحي بين (إسرائيل) وتونس حيث قدم أول وفد سياحي إسرائيلي إلى تونس بشكل رسمي، وفي عام 1996 أعلن وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر أنه للمرة الأولى ستنشئ إسرائيل وتونس مرافق رسمية تسمى رعاية المصالح في كلا البلدين، وفي هذا العام أيضا ظهر التطبيع التجاري مع قطر[2]، ثم لحقت موريتانيا الأردن كثالث دولة عربية في مسيرة التطبيع الكامل مع (إسرائيل) وذلك في عام 1999[3].
وعلى الرغم من هذه التطورات السلبية على القضية الفلسطينية إلا أن ذلك لم يخفت من جذوة المقاومة وتغلغلها في المجتمع الفلسطيني المتمسك بحقوقه المشروعة، لتتفجر الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر 2000 إثر تدنيس الهالك شارون للمسجد الأقصى المبارك، ولتستمر أكثر من 5 سنوات متتالية؛ إذ إنها توقفت في 8 فبراير 2005.
وبعد ذلك تزايدت هجمة التطبيع لتلتحق فيه الإمارات والبحرين والمغرب بشكل كامل، ولتتجه أنظار الكيان الصهيوني على باقي الدول العربية كي تنخرط في مستنقع التطبيع، ولتتحلل بعد ذلك بعض الدول الأفريقية من ارتباطها بالقضية الفلسطينية ولتتجه نحو التطبيع مع (إسرائيل) كتشاد في عام 2018، والسودان العربية بلد اللاءات الثلاث بعد الانقلاب على نظام البشير، وقد حقق الكيان الصهيوني نجاحات كبيرة بعد تمكنه من فتح عدة أجواء العربية للطيران الإسرائيلي.
كل هذه العوامل السلبية (الداخلية والخارجية) على القضية الفلسطينية لم تتمكن من كسر إرادة المقاومة في المجتمع الفلسطيني لا على صعيد الفصائل ولا على مستوى الأفراد، على الرغم من ظهور قوى الأمن الفلسطينية بكافة تشكيلاتها وتماهيها مع مصلحة الاحتلال، حتى بات التنسيق الأمني مع العدو مقدسا عند السلطة الفلسطينية حيث تحولت قواه الأمنية إلى الوظيفة المرسومة لها مسبقا وهي حراسة المصالح الإسرائيلية وملاحقة المقاومين.
بالرغم من قتامة المشهد السياسي، إلا أننا نستطيع القول بأن ثقافة المقاومة قد تجذرت في أعماق الشعب الفلسطيني ونمت وأثمرت، ففي جميع المجالات نجد روح المقاومة تتشكل على هيئة عمل شعبي ومؤسسي مدروس في الداخل والخارج ليكون نهضة وثابة حملت راية المقاومة ولم تسمح بسقوطها وواصلت المسيرة، فعلى الصعيد العسكري ظهرت الأذرع العسكرية المختلفة للفصائل الفلسطينية، والتي قدمت الغالي والنفيس وأثبتت قدرة عالية في التكتيت العسكري، وبراعة مدهشة في الإستراتيجية الحربية، سواء في قطاع غزة الذي خاض الحرب تلو الحرب دون أن يتمكن الاحتلال من تحقيق مراده، أو في الضفة الغربية، حيث تشكلت مجموعات المقاومة في أهم مدن الضفة، ومعركة جنين الأخيرة خير شاهد على ذلك، وعلى الصعيد الأدبي ظهرت مؤسسات ثقافية فلسطينية ومراكز دراسات مختصة استلمت الراية بعد توقف مؤسسات منظمة التحرير الثقافية والبحثية، كمركز الزيتونة في بيروت ومركز الشرق الأوسط في عمان، ومؤسسات ثقافية أخرى مثل بيت فلسطين للثقافة، ونشط الشاعر تميم البرغوثي في المجال الأدبي المقاوم، وبرعت ريشة فنان الكاركتير د. علاء اللقطة ومن قبله الفنانة أمية جحا وغيرهما ليتسلما الراية من شيخ فناني الكاريكاتير شهيد الريشة ناجي العلي، ولتنبعث من جديد أناشيد التعبئة الثورية المقاومة من عدة فرق لتحمل الراية بعد توقف فرقة أناشيد الثورة الفلسطينية.
أما على صعيد الحاضنة الشعبية للمقاومة، وهي من أهم ركائز النجاح لأية مقاومة، فقد ضربت في فلسطين أروع الأمثلة في تحملها وصبرها وبذلها ودعمها، في غزة المحاصرة الصابرة، وفي جنين ونابلس والقدس والخليل، وحيثما حلت المقاومة وجدت هذه الحاضنة تبذل وتضحي وتدفع الثمن بنفس راضية مطمئنة، وهذه جنين القسام تضرب أعظم الأمثلة في رسوخ ثقافة المقاومة فيها، ويا لتلك الرسالة المدهشة التي وجدها المقاومون في أحد البيوت في مخيم جنين (فداكم البيت طوبة طوبة) فثقافة الشعب الآن تميز بين الغث والسمين، وبين والمقاوم والعميل.
وعلى صعيد العمل الشعبي المؤسسي، فها هي مؤسسات العمل الشعبي لفلسطين تكتب بأحرف من نور إنجازاتها على صعيد المحافظة على الثوابت الفلسطينية كحق العودة ووحدة الأرض من بحرها إلى نهرها، لتنطلق أعمال مؤتمر فلسطينيي أوروبا في نسخته العاشرة هذا العام، ولتنطلق عدة مؤسسات نقابية للعمل لفلسطين مثل برلمانيون من أجل القدس، وهيئة علماء فلسطين، وتجمعات مهنية أخرى خاصة بالمهندسين والأكاديميين وغيرهم، ولعل آخر المؤسسات الشعبية الفلسطينية تأسيسا وأكثرها زخما المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج الذي تأسس في فبراير 2017.
إن ثقافة المقاومة هي روح تسري في شرايين المجتمع الفلسطيني وفي عقله، وفيمن يسانده من أحرار الأمة وأشرافها، وتنعكس هذه الروح في فضاءات الحياة الافتراضية والواقعية، وتفرض نفسها حتى تحقق غاياتها، وإن قوما يحملون هذا الفكر وهذه الروح لن تكسر لهم راية ولن يتراجعوا حتى يحققوا الغاية، وإن غدا لناظره قريب.
[1] يذكر أن الحكومة التونسية قد لعبت دور رئيسا في عقد المحادثات السرية بين (إسرائيل) والمنظمة والتي أدت إلى توقيع اتفاق أوسلو.
[2] وقد توقفت العلاقات التجارية بينهما بعد الحرب على غزة بين عامي 2008 و2009.
[3] جدير بالذكر أن موريتانيا قد جمدت علاقاتها مع إسرائيل بعد ذلك عام 2009 احتجاجا على حربها ضد غزة.
نقلاً عن: