خاص هيئة علماء فلسطين
جمال إسماعيل أبو ضياء
6/6/2024
الحج عبادة قديمة شرعها الله تعالى للأنبياء وأتباعهم من لدن آدم (عليه السلام)، إلى يوم القيامة. قال تعالى (إنّ أول بيت وُضع للناس لَّلذي بِبكةً مباركاً وهُدىً للعالمين ، فيه آياتُ بينات مَقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإنّ الله غنيُّ عن العالمين} [آل عمران: 96ـ97]. (وبَكة من اسماء مكة المكرمة لأنها تدق أعناق الطغاة. فما قصدها جبار بسوء إلا قصم الله ظهره ؛ كما فعل الله بأبرهة وجيشه ، انظر سورة الفيل).
وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله أيّ مسجد وضع أول؟ قال “المسجد الحرام” قلت: ثم أيّ؟ قال: “المسجد الأقصى” قلت: كم بينهما؟ قال: “أربعون سنة” رواه البخاري ومسلم.
( تأمل الربط الوثيق بين المسجدين ودلالة ذلك على وحدة المقدسات الإسلامية والأمة العربية والإسلامية والعلاقة الوثيقة والقديمة بين أم القرى مكة المكرمة وزهرة المدائن القدس الشريف و بين الحجاز وشام الشام وزينة البلدان فلسطين ) .
وعندما اختفت معالم الكعبة والبيت الحرام ردحاً من الزمن – بعد طوفان نوح ( عليه السلام )- ، أرشد المولى تبارك وتعالى خليله إبراهيم (عليه السلام) إلى مكان الكعبة المشرفة (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً…} [الحج: 26] وأمره أن يُسكِنَ زوجَتَهُ هاجر وطفلَهُ إسماعيل عليهما السلام في تلك البقعة الطاهرة (ربّنا إنّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم….} [إبراهيم: 37].
ولما صار إسماعيل (عليه السلام) شابا يُعتمد عليه ويملأ القلب والعين …أوحى الله إلى إبراهيم (عليه السلام) أن يرفع قواعد البيت الحرام ويُجدد بناء الكعبة المشرّفة جنباً إلى جنب ويداً بيد مع ابنه البار إسماعيل نبي الله ، قال تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيلُ ربّنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة: 127].
وكافأ الله خليله إبراهيم عليه السلام على هذا العمل الجليل بأن جعل له مَقاماً بجوار الكعبة وفاءً لمن عمّر بيت الله وحافظ على طهارته وحرمته وخدم مع ذريته الأبرار ضيوف الرحمن العبادين الخاشعين الموحدّين (…واتخِذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}[البقرة:125].
وفي زمن خاتم النبيين وأشرف المرسلين سيدنا محمّد (صلى الله عليه وسلم) وبعد فتح مكة وتحريرها من المشركين، طهّر النبي ( صلى الله عليه وسلم) الكعبة المشرفة من رجس الوثنية والعادات الجاهلية التي ابتدعها المشركون مثل الأصنام التي امتلأت بها الكعبة والمسجد الحرام وصارت تُعبد وتُرجى من دون الله، فألغى النبي (صلى الله عليه وسلم) تلك الأوثان من العقول والوجدان بالحجة والحوار وبيان القرآن ثم أزالها من الوجود والشهود بالقوة والسِنان وهو يردد “جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً” وأعلا راية التوحيد والإيمان، وألغى العادات الجاهلية التي كانت سائدة في الحج قبل الإسلام والتي كان منها الطواف بالبيت عراة والتفاخر بالآباء والأجداد في مزدلفة ،وقال للناس: “خذوا عني مناسككم” [رواه البيهقي]، فعلّم الناس بالممارسة والأفعال أعمال الحج والعمرة, فالله تعالى لا يُعبد إلا بما شرع ولا يُطاع إلا وفق ما أمر على طريقة رسول الله (وأطيعوا الله والرسول لعلّكم ترحمون} [آل عمران132] ، (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران:31].
وتأكيداً لهذه المعاني بعث علياً ( كرّم الله وجهه و رضي عنه) في السنة التاسعة للهجرة ليؤذّن في النّاس يوم النّحر بمِنى بقوله تعالى: (وأذان مِن الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ…}[التوبة: 3]. ثم بلّغ الناس نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أن لا يَحج بعد العام مشرك ،ولا يطوف بالبيت عُريان ولا يدخل الجنّة إلا نفس مؤمنة”[رواه البخاري والترمذي وأحمد].
**
لماذا الحج؟
كيف يزداد المسلم إدراكاً لأهمية الحج وفضيلته ووعياً لأهدافه ومقاصده وشوقاً لمناسكه وشعائره.. ؟!!
الجواب على ذلك يكون عندما يعرف المسلم لماذا فُرض الحج ولماذا يحج؟!! ومن أجل ذلك لا بد لنا من بيان بعض الحِكم الإلهية والدوافع الشرعية.. التي ينطلق منها المسلم لأداء هذه العبادة العظيمة بشوق وحنين وإخلاص ويقين.. وهي:
1 – الامتثال لأمر الله: فالحج فريضة شرعية.. يؤديها المسلم أولاً وقبل كل شيء عبادة وطاعةً لله وامتثالاً وتلبيةً لأمره عز وجل :(ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا}[آل عمران: 97]، واستجابة لنداء خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام ) :(وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍ عميق}[الحج:27]. [رجالاً: أي مشاة، ضامر: أي مركوب]. ويُروى أن سيدنا إبراهيم (عليه السلام ) صعد على جبل أبي قُبيس في مكة بعد أن أتم بناء الكعبة، وقال: “يا أيها الناس إن ربّكم بنى بيتاً وأوجب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم” والتفت بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، فأجاب كل من كُتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات: “لبيك اللهم لبيك” تفسير الرازي 23 /27.
2 – استكمال الإسلام : فالحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام فمن أدّاه بإخلاص وإتقان ـ مع باقي الأركان ـ فقد استُكْمِل إسلامه. قال(صلى الله عليه وسلم ): “بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا “[رواه البخاري ومسلم].
3 – التأكيد على (التوحيد) وتطبيقه عملياً: ففي الحج يتأكد ويتحقق توحيد الله تبارك وتعالى، حينما يهتف المؤمنون بقلوبهم وحناجرهم :”لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.. فالمسلم بهذه الكلمات يُعلن عن حقيقة العقيدة التي يعتنقها وجوهر الرسالة التي ينتمي إليها وهي توحيد الله عز وجل وتنزيهه عن الشريك في العبودية والُملك والحاكمية، فلا معبود بحق إلا الله ولا حاكم ولا مشرّع، ولا مالك ولا مدبّر، ولا ضار ولا نافع سواه.
قال تعالى: (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج:26].
وفي الحج يتحقق ويتأكد توحيد الإتباع لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو الأسوة الحسنة و القدوة العليا لنا ، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة….} [الأحزاب:21].
ففي الحج يأخذ المسلم درساً عملياً في إتّباع رسول الله والسير على خُطاه في الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار في مِنى وذبح الهَدْي.. ليتدرب من خلال هذه الأمور على الاقتداء بسيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم) في كل شأن من شؤون حياته. وما أجمل قول سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خاطب الحجر الأسود قائلاً: “إني لأعلم أنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبلك ما قبلتك” ،ثم بكى حتى سالت دموعه على لحيته وقال: “هنا تُسكب العَبَرات وهنا تُستجاب الدعوات” رواه الستة بألفاظ متقاربة.
وفي الحج يتحقق ويتأكد التوحيد العملي لهذه الأمة والمساواة بين أبنائها حيث ينصهر الجميع في بوتقة الإسلام الخالدة، لباسهم واحد، وهتافهم واحد، ومناسكهم واحده، وربُّهم واحد، ودينهم واحد، وقبلتهم واحدة، ونبيّهم واحد، وكتابهم واحد وقضيتهم واحدة، لا يفرق بينهم لون أو لغة أو عرق أو مذهب أو فقر أو غنى، إنما هم كما قال تعالى (إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}[الأنبياء:92].
4- مغفرة الذنوب : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :”مَن َحجّ لله فلم يرْفُثْ ولم يفْسقْ رجع كيوم ولدته أمُّه” متفق عليه.
5 – الفوز بالثواب العظيم: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” رواه البخاري ومسلم. وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم): “الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاةٍ، والصلاة في بيت المقدس بخمس مئة صلاة” رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وهو حديث حسن.
6- استجابة الدعاء: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : “الحُجّاج والعُمّار وفدُ الله دعاهُمْ فأجابوه وسألوه فأعطاهم” رواه البزار ورجاله ثقات.
7 – تربية النفس على الصبر على المشاق والزهد في الدنيا، لذلك شبّه النبي(صلى الله عليه وسلم) الحج بالجهاد. فقال لعائشة رضي الله عنها عندما سألتهُ فقالت: يا رسول الله: هل على النساء جهاد؟ قال: “نعم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة” رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة.
8- تهذيب الأخلاق والتزود من التقوى: قال الله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإنّ خير الزاد التقوى واتّقون يا أولي الألباب} [البقرة: 197].. وقال(صلى الله عليه وسلم) لفتى يلحظ النساء ـ ينظر إليهن ـ يوم عرفة… “إن هذا يوم من ملك فيه سمْعه وبصره ولسانه غُفر له” رواه أحمد.
9 – تذكر الموقف والمحشر يوم القيامة: ولذلك بدأ الله سورة الحج بقوله: (يا أيها الناس اتقوا ربّكم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كْلُّ مرضعةٍ عمّا أرضعت وتضع كلُّ ذات حمل حملها وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد} [الحج:1ـ2]. وختم الله آيات الحج الواردة في سورة البقرة بقوله :(واتقوا الله واعلموا أنّكم إليه تحشرون} [البقرة: 203].
10- التأمل بمعالم الإسلام الخالدة وما ترتبط به من ذكريات مجيدة وما تفيض به من دروس وعبر لكل ذي لُبِّ ونظر. فعند البيت العتيق وزمزم والصفا والمروة.. يتجلى في خاطر المؤمن إبراهيم (عليه السلام)، الذي أسكن زوجته هاجر وطفله الوحيد ـ آنذاك ـ إسماعيل (عليه السلام)، في مكان قاحل.. لا حياة فيه ولا أحياء.. فتولى الله تعالى ذلك الطفل وأمه التي أطاعت زوجها وتوكّلت على ربّها.. ففجر لهما ماء زمزم من قلب الصحراء.. فتحوّل ذلك المكان القاحل إلى واحةٍ مباركة، تهوي إليها أفئدة الناس من كل مكان إلى يومنا هذا..
وفي مِنى يتذكر المؤمن تلبية إبراهيم ( عليه السلام ) لأمر ربّ العالمين، بذبح ولده الفتى إسماعيل (عليه السلام)، فلما استسلما لأمر الله صابرَيْن، أهداهما الله تعالى ذبحاً عظيماً فداء وتكريماً.
وفي كل بقعة من تلك الأرض المباركة، يتذكر المؤمن حبيبه محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يطوف حول الكعبة عابداً، ويتردد في أرجاء مكة داعياً ومجاهداً بصبر ويقين وعزم لا يلين، ويتذكر آله الأطهار وصحبه الأخيار ومواقفهم النبيلة إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وتضحياتهم الجسيمة بالنفس والمال والوطن في سبيل الله.
وعند العقبة في منى يتذكر المؤمن أفواج الأنصار الأبرار الذين بايعوا رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام والطاعة ونصرة الدعوة وحماية الرسالة بكل غالٍ ونفيس. فيتردد في خاطره بقوة قول الحق تعالى: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال: 63].
****
المعاني اللطيفة لمناسك “الحج” الشريفة
معظم أعمال الحج تعبُّدية، ولكن بعضها ظهرت حكمته، وخفي الآخر، ليكون المسلم مستسلماً لأمر الله، منقاداً لربّه ومولاه. وقد سُئل ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ عن الحِكمة من أفعال الحج، فقال: “ليس من أفعال الحج ولوازمه شيءٌ إلا وفيه حِكمة بالغة، ونعمةٌ سابغة، ونبأٌ وشأن، يقصر عن وصفه كل إنسان”.
فمثلاً:
• عندما يتجرد المؤمن من سائر الثياب ويتخلى عن مظاهر الترف والنعيم كالتطيّب والنساء.. ويقتصر على ثياب الإحرام البيضاء (المئزر والرداء).. فإنه ينسلخ بذلك من الأسباب التي تشده إلى الدنيا، فيمضي حياً بكفن الأموات، متذكراً مصيره المحتوم الذي سيؤول إليه كل إنسان وهو الرحيل عن الدنيا بالموت.. ويتمثل قول الشاعر:
فلا تغــرنَّك الــدنيا وزينتهــا =وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن.
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعهـا =هل راح منهــا بغير القطن والكفن
يا نفس ويحك توبي واعملي حسـنا= عسـى تُجزين بعد الموت بالحسـن.
كما أنّ الناس بثياب الإحرام يتساوون في المظهر فلا يتميز العظيم عن الوضيع ولا الغني عن الفقير ، لا تيجان ولا عمائم ولا شارات ولا نجوم ولا ربطات عنق ولا ثياب شهرة…فالرجل المُحرِم حاسر الرأس حافي القدمين عار الا مما يستر العورة ، يرتدي ثياب العبيد و الخدم والتذلل لله رب العالمين . والمرأة المُحرِمة تكشف عن وجهها وكفيها ، لا فرق في ذلك بين الحُرة والأَمة .
• وعندما يردد الحاجّ (التلبية)… فإنه يعلن بذلك عن إجابته لنداء الله عزّ وجلّ القائل: (وأذّن في الناس بالحج…..} فعلى المؤمن أي يستشعر معنى الاستجابة لله تعالى وهو يردد هذا الهتاف الخالد بقلب خاشع يرجو رحمة الله ويخاف عذابه.
وهو نداء يتصل فيه الماضي بالحاضر ، وأهلُ الأرض مع أهل السماء ، وهو نشيد المسلم العالمي يردده ضيوف الرحمن جميعا بصوت واحد عند الإحرام وفي معظم المناسك ، فتقشعّر من روعته الأبدان وتتحرك القلوب والوجدان … يملأون به الفضاء والأرجاء ، بالتعظيم والتقديس والحمد والثناء لربّ الأرض والسماء .
• أما الطواف، فإن المقصود الأعظم منه هو طواف القلب بذكر ربِّ البيت العتيق ـ سبحانه وتعالى ـ وربّ كل شيء ومليكه..( وليطوفوا بالبيت العتيق ) وأنه بذلك يعلن عن استسلامه الكامل وانقياده التام لله رب العالمين ، كأنه ذرة صغيرة في ملكوت الله الواسع العظيم يدور كما أراد الله بكل تذلل وانكسار لله العلي الجبار الى جانب ذرات الكون ومجراته ( وكل في فلك يسبحون ) .
وليعلم الحاج أن الطواف بالبيت صلاة غير أنه يحل فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير.. وليعلم أيضاً أنه بطوافه حول الكعبة إنما يتشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش والطائفين في البيت المعمور. قال تعالى: (وترى الملائكة حافّين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم}[الزمر: 75].
• أما استلام الحجر الأسود وتقبيله ـ إن أمكن ـ .. فليدرك المؤمن أنه بذلك يُبايع الله على التقوى والتوبة، والطاعة والتضحية في سبيله تعالى..
وإنها لَبيعةٌ ثقيلة ومسؤولية جسيمة (إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسوف يؤتيه أجراً عظيماً}[الفتح:10].
وليدرك أيضا أنه أمام حجر من أحجار الجنّة، عنده تُسكب العبرات وتُستجاب الدعوات ، و أنه يشهد يوم القيامة لمن استلمه بحق .
• أما السعي بين الصفا والمروة (ذهاباً وإياباً) فهو عبارة عن شدة إلحاح المؤمن في استمطار الرحمة، وإظهار الخلوص في الخدمة والتفاني في الطاعة لله تعالى، رجاءً للملاحظة بعين الرضا والرحمة… وأنه يتشبه بأم المسلمين هاجر عليها السلام وهي تسعى في نفس المكان بلهفة وحنان لا ترجو إلا الله ، فاستجاب الله لها سعيها ودعاءها وفجر الماء من تحت أقدام ولدها .
• أما الوقوف في عرفات يوم عرفة.. حيث يزدحم الخلق في أرض غبراء.. شعثاً غبرا.. ترتفع أصواتهم بمختلف اللغات بالتضرّع والدعاء بقلوب وجله وعيون باكيه لربها تائبة.. كأنهم قاموا من قبورهم لربّ العالمين.. مبتهلين خاشعين.. هذا المشهد يجب أن يهز النفوس هزا ويشدها شداً لتذكر يوم البعث والحشر والحساب (يوم يُنفخ في الصور فتأتون أفواجا}[ النبأ : 18 ].
وهو الموقف الذي تتنزل فيه الرحمة وتتحقق فيه المغفرة ويستجاب فيه الدعاء وهو ركن الحج الأعظم .
• وأما رمي الجمار في مِنى.. فهو كناية عن رجم وجه إبليس وإعلان البغض والعداء له ولجنوده وحزبه من شياطين الأنس والجن وطواغيت الأرض.. قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:6]. وفيه يؤكد المؤمن الحاج أنه لن يعود بعد اليوم إلى سبيل الشيطان بعد أن منّ الله عليه بالغفران التام .
• أما ذبح الهّدي والأضاحي.. فهو تدريب للنفوس المؤمنة على التضحية والفداء والبذل والسخاء في سبيل الله .. كما أنه يتذكر الذبيحة العظمى التي حصلت في نفس المكان والزمان، قال تعالى: ( فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ، قال يا أبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، فلما أسلما وتلّه للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ، إن هذا لهو البلاؤ المبين، وفديناه بذبح عظيم ) الصافات ١٠٢ -١٠٧.
وسُئل (صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الأضاحي فقال: (سُنّة أبيكم إبراهيم) قالوا: “فما لنا فيها يا رسول الله. قال: (بكل شعرةٍ حسنة)… رواه ابن ماجة والحاكم بإسناد صحيح.
فما أحوج المؤمنين إلى تدبر هذه المعاني اللطيفة والعبر العظيمة التي تفيض بها مناسك الحج ومواقفه الشريفة.. وما ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض ونقطة في بحر.. فنسأل الله أن يفتح قلوبنا لفهم أوامر الله فنتذوق حلاوة معانيها ونزداد تعظيماً لشعائر الله (ومن يُعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) [الحج:32].
( قوارب النجاة: بتصرف )
أعظم أيام الله
مَن فاتته المِنّة العظمى والفريضة الكبرى وهي الحجّ والعمرة إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة.. لا سيماةفي هذا العام بسبب جائحة الكورونا وغيرها من الأسباب … فينبغي أن لا تفوته بركة الأيام العشر الأوائل من شهر ذي الحجة الفضيل. روى البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال، قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم ): “ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام ـ وفي رواية: من هذه العشرـ قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء”.
وفي حديث آخر قال (صلى الله عليه وسلم ): “ما من أيام أعظمُ عند الله، ولا أحبُّ إلى الله فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير”.. [رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح].
كما يُستحب صيام هذه الأيام، وخصوصاً يوم عرفة [لغير الحاج]، لقوله (صلى الله عليه وسلم) عن “صوم عرفة يُكفِّرُ السّنة الماضية والباقية” [رواه مسلم].
أعظم يوم
وحَسْبُ هذه الأيام فضلاً أن فيها يوماً من أعظم أيام الله، هو يوم عرفة الذي ينتشر فيه الحجيج في أرض واحدة، غبراء عفراء، كأرض المحشر، يفترشون الأرض الجرداء ويلتحفون السماء، والشمس فوق رؤوسهم ترسل أشعتها الحارة على أجسادهم المكشوفة إلا من ثياب الإحرام (المئزر والرداء)، شُعثاً غبرا، كأنهم قاموا من قبورهم لربّ العالمين، ملبين خاشعين، بقلوب وجلة، وعيون باكية لربها تائبة، متضرعين إلى الله، راجيين هداه وطالبين عفوه ورضاه.
ولأهمية هذا اليوم العظيم قال(صلى الله عليه وسلم): “الحجّ عرفة” [رواه أبو داوود وغيره]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً ، اشهدوا أني قد غفرت لهم »رواه أحمد .
وما روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو يتجلى، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ». [رواه مسلم].
وهو يوم الدعاء المستجاب ففي الحديث : ” خير الدعاء يوم عرفة ، وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ” رواه الترمذي.
*وهو يوم تتجلى فيه الوحدة الإسلامية بأبهى صورها ، حيث يجتمع الحجيج جميعا في صعيد واحد ، حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يتذكرون وصاياه العظيمة في خطبة الوداع البليغة : ” أَيهَا النّاسُ، إنّما المُؤمِنُونَ
إخْوةٌ ، فَلاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، أَلاَ هَلْ بلّغْتُ ؟ اللّهُم اشْهَدْ، فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض ، فَإنّي قَدْ تَركْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذتمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ :كِتَابَ اللهِ وَ سُنَّة نَبيّه ، أَلاَ هَلْ بلّغتُ ؟ اللّهمّ اشْهَدْ.
أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ ؟ اللّهُمّ اشهد ” قَالُوا: نَعَمْ قَال: فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ ” سيرة ابن هشام ٤ / ٦٠٣.
وختامها عيد
إن عشر ذي الحجة أيام كلها خير وبركة، يقضيها المسلمون الأتقياء في عبادة وطاعة وتقوى وبِر، متسابقين إلى العمل الصالح، حتى إذا شارفت على النهاية، أظلهم الله بيوم عيد الأضحى المبارك، الذي تعمُّ بهجته قلوب المسلمين.
( ومضات الخاطر : بتصرف )
ويوم عيد الأضحى هو أيضا من أفضل الأيام عند الله تعالى ، ففي الحديث : ” أعظم الأيام عند الله يوم النحر وثم يوم القر” رواه أحمد وغيره . ويوم القر يوم المبيت بمنى . وعند االترمذي مرفوعا : ” يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدكم أهل الإسلام … ” وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي تلي عيد الأضحى أي يوم النحر .
وافضل الأعمال في هذه الأيام بعد الوقوف بعرفة: نحر الهَدي والأضاحي بعد صلاة العيد وحتى غروب شمس آخر أيام التشريق مع التكبير من فجر يوم عرفة حتى عصر آخر أيام التشريق . عن عَائِشَةَ رضي الله عنها :أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم قال :(ما عملَ آدميٌّ من عملٍ يومَ النَّحرِ أحبُّ إلى اللهِ من إهراقِ الدَّمِ ،إنَّهُ ليؤتى بها يومَ القيامةِ بقُرونها وأشعَارِها وأظلافِها وإنَّ الدَّمَ ليقعُ من اللهِ بمكانٍ قبلَ أن يقعَ من الأرضِ فطيبُوا بها نفساً) رواه الترمذي وابن ماجه..
فائدة لطيفة حول تسمية أيام الحج :
*اليوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية : لأنهم كانوا يرتوون فيه الماء لحمله لعرفة والمشاعر .
*اليوم التاسع يوم عرفة : لوقوفهم بها وهو أعظم أعمال الحج.
*اليوم العاشر يوم النحر :لنحر الهَدي فيه وهو يوم الحج الأكبر ففيه رمي جمرة العقبة الكبرى وفيه ذبح الهَدي وفيه الحلق أو التقصير وفيه طواف الإفاضة وسعي الحج.
*اليوم الحادي عشر يوم القرّ : لأنهم يستقرون فيه بمنى بعد تنقلهم في المشاعر.
*اليوم الثاني عشر يوم النفر الأول: لمن أراد أن يتعجل بمغادرة مِنى .
*اليوم الثالث عشر يوم النّفر الثاني : لأنهم ينفرون فيه من مِنى لمن أراد أن يتأخر.
قال تعالى 🙁 وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )البقرة (203)
والمعنى : “واذكروا الله تسبيحًا وتكبيرًا في أيام قلائل، وهي أيام التشريق: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة. فمن أراد التعجل وخرج من “مِنى” قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا ذنب عليه، ومن تأخر بأن بات بمِنى حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فلا ذنب عليه، لمن اتقى الله في حجه. والتأخر أفضل؛ لأنه تزوُّد في العبادة واقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. وخافوا الله- أيها المسلمون- وراقبوه في كل أعمالكم، واعلموا أنكم إليه وحده تُحْشَرون بعد موتكم للحساب والجزاء” التفسير الميسر .
أيها المسلمون في كل مكان :
ها هي أيام العشر من ذي الحجة قد أظلّتكم بإشراقاتها المباركة، فاغتنموها بالعبادات المنبثقة من القلب وأكثروا فيها من العمل الصالح، ولترتفع دعواتكم من الأعماق ضارعة خاشعة أن يُحقق الله لأمة الإسلام آمالها ويغفر لها زلاّتها وتقصيرها وأن يرد إليها عزّتها وسيادتها ووحدتها ويجمعها على كتاب ربّها وسُنّة نبيّها ويرد كيد الأعداء عنها وأن يُهلك اليهود الغاصبين وأعوانهم وسائر الظالمين وأن يُعيد المسجد الأقصى وفلسطين إلى حوزة الإسلام والمسلمين وأن ينصر المجاهدين في كل مكان ويرحم موتى المسلمين ويشفي جرحاهم ويفك أسراهم ويرفع الحصار ويرد العدوان عن أهلنا في غزة والقدس والضفة وأن يحقن دماء المؤمنين و ينصر المظلومين في الشام والعراق ومصر و بورما واليمن وليبياوافغانستان ولبنان ….وان يرفع عنا البلاء والوباء و الغلاء وتسلط الأعداء …ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان ويُفرّج عن المنكوبين والمستضعفين في الأرض ويمنحنا النصر والسعادة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
اللهم آمين والحمد لله ربّ العالمين .