22/10/2025
د. عمر الجيوسي / كاتب وإعلامي فلسطيني
في غزة، يواصل الناجون من الإبادة معركتهم الأصعب: معركة إعمار النفس. فالحرب التي دمّرت المباني لا تزال نيرانها مشتعلة في عمقهم، إذ يعيش الغزيون اليوم آثارًا نفسية عميقة تفوق قدرة التحمل.
ورغم انشغال العالم بإعادة البناء المادي، يحذر المتخصصون من أن الإعمار الحقيقي يبدأ من الإنسان نفسه. فالناجون ليسوا مجرد أرقام، بل مسؤولية أخلاقية وروحية تقع على عاتق الأمة، علمائها، ودعاتها، وأخصائييها النفسيين والاجتماعيين. هم الشاهدون على الجرح والأمل معًا، وبقدر ما نعيد إعمار نفوسهم، نستعيد إنسانيتنا نحن.
جراح لا تُرى.. وسكان يعيشون في ذاكرة النار
تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن نحو 45 بالمئة من البالغين في غزة يعانون اضطرابات نفسية متفاوتة، بعضها مزمن. المنظمة تحذر من أن الصدمة تحوّلت إلى نمط حياة. تقول الأخصائية النفسية هدى السوسي من مركز “رؤية”: “الناجون يعيشون بين الشعور بالذنب لأنهم بقوا، والخوف من أن يعيد التاريخ نفسه. ومع ذلك، فإن قدرتهم على المقاومة النفسية مذهلة.” أما تقارير “يونيسف” فتؤكد أن أطفال غزة يواجهون واحدة من أعلى معدلات الصدمة في العالم، مشيرة إلى أن “برامج الدعم النفسي يجب أن تصبح جزءًا من التعليم اليومي لا خدمة طارئة.”
بين الصدمة والصمود.. غزة تعيد تعريف البقاء
رغم أن مجتمعات كثيرة انهارت بعد الحروب كالعراق والبوسنة وسوريا، فإن غزة بقيت متماسكة بفضل نسيجها الاجتماعي والديني. وتوضح دراسة لجامعة “كيب تاون” أن المجتمعات ذات التضامن الديني والاجتماعي العميق “أقدر على النجاة النفسية من الكوارث الممتدة.” في غزة، تحوّل الإيمان من طقس تعبدي إلى شبكة نجاة جماعية تحفظ توازن الناس في مواجهة الفقد اليومي.
حين يصبح الإيمان علاجًا.. حوار خاص مع الداعية سامح دلول
يقول الداعية الميداني، سامح دلول، أحد أبرز الأصوات التي عززت من صمود الناس في غزة وثباتهم، “الإيمان هو الدرع المعنوي الذي يحمي الروح حين تنكسر كل الدروع الأخرى”. ويضيف في حديثه مع “قدس برس”: “حين تنفجر البيوت، يظل القلب العامر بالإيمان مأوىً آمنًا. أهل غزة لا ينهارون لأنهم آمنوا أن الألم عبادة والصبر شهادة”.
ويضيف دلول عن دور المربي والداعية في الأسر والمسجد في تعزيز التوازن النفسي للناجين من الإبادة، قائلاً: “المربي والداعية في غزة لم يقدما الإيمان كمواعظ فقط، بل كواقع يُعاش. في البيت، الأب والأم يربّيان أبناءهما على أن الموت قَدَر، لكن الشهادة اختيار كريم”. وأضاف “في المسجد، غُرست الثقة بالله أكثر من الخشية من العدو. هذا التكرار العملي بين البيت والمنبر خلق جيلًا يرى الخطر فرصة للتقرب لا للهروب”.
من التربية الإيمانية إلى المناعة النفسية
ويرى الشيخ دلول أن تجربة الدعم النفسي في غزة، التي قدمها الدعاة في الميدان، “يمكن أن تُعمّم عربيًا إذا أُعيد تعريف التربية الإيمانية لتكون واقعية لا شعاراتية”. وأوضح “على الأسر والمعلمين أن يربّوا أبناءهم على الإيمان الواعي، لا الخوف الوراثي. فحين يرى الطفل قدوته تصبر وتتوكّل، يتشرّب هذا الثبات بلا تلقين. المطلوب أن يصبح الدين جزءًا من السلوك اليومي، لا مجرد درس بعد الأذان”.
غزة.. مختبر إنساني لعلم النفس المقاوم
تقول الخبيرة الأمريكية جوديث هيرمان، مؤلفة كتاب “الصدمة والتعافي” إن: “إعادة تأهيل الناجين من الإبادة ليست عملاً علاجيًا فقط، بل فعل عدالةٍ وتأريخ”. ويرى الطبيب النمساوي الراحل فيكتور فرانكل أن الإنسان “يستطيع أن يتحمّل أي مأساة إذا وجد لها معنى”. في غزة، يجد الناس هذا المعنى في الإيمان والعمل الجماعي، حيث تحوّل الألم إلى دافع للبقاء.
أما الباحثة النفسية الأردنية نسرين الحياري، فتقول لـ”قدس برس”: “غزة لا تمثل مجرد مأساة، بل هي مدرسة عالمية في علم النفس المجتمعي. من واجب الجامعات والمراكز العربية أن توثّق هذا النموذج وتدرّسه”.
من الركام إلى الرسالة: إعمار الإنسان قبل الحجر
يتفق المختصون النفسيون والدعاة في أحاديثهم لـ”قدس برس” على أن إعمار الإنسان هو الخطوة الأولى لإعمار المدن. فالمدارس التي تهدّمت تحتاج إلى مناهج جديدة تُعيد بناء الوعي، والمساجد التي قصفت تحتاج إلى تأهيلٍ لتنهض برسالتها التربوية من جديد. ولا يمكن أن ينجح إعمار الحجر دون أن يُعاد بناء الروح التي تسكنه.
غزة تنهض، الناجون أولا
تتفق منظمات الصحة والطفولة مع مؤسسات عربية نفسية ودينية على أن إعادة إعمار نفوس الناجين من الإبادة في غزة ضرورة عاجلة لا ترفًا. ويطالب المختصون بإنشاء مركز تأهيل نفسي عربي دائم في غزة لتدريب الكوادر، وإدراج مادة “الصحة النفسية في الأزمات” في الجامعات العربية، لتكون الأمة كلها شريكًا في هذه المهمة. غزة اليوم لا تنتظر شفقة العالم، بل تنتظر أن ينهض الأطباء والعلماء والدعاة لتأسيس أول عيادة عربية لإعمار النفس بعد الإبادة، ليأخذ الناجون مكانهم في التعافي وإعادة البناء.
ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ارتكبت قوات الاحتلال -بدعم أميركي أوروبي- إبادة جماعية في قطاع غزة، شملت القتل والتجويع والتدمير والتهجير والاعتقال، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة أكثر من 238 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين، معظمهم أطفال، فضلًا عن دمار شامل ومحو معظم مدن ومناطق القطاع من على الخريطة. وفي قلب هذا الخراب، ينهض الناجون من الإبادة، لا ليحكوا فقط ما جرى، بل ليعيدوا بناء ما يمكن، ويثبتوا أن الحياة لا تُهزم.
*************
المصدر: موقع قدس برس