4/8/2025
د. عمر الجيوسي

العودة للحديث عن “حل الدولتين” من قبل الأوروبيين ليست تطورا سياسيا، بل إعادة تدوير لطرح قديم لم يُنفذ يوما، كما لو كانوا يعرضون خريطة لمدينة اندثرت.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية الذي يُلمح إليه في بعض الدول مشروط بشروط الاحتلال، اعتراف لا يُمنح بل يُستجدى، فلا هو سيادي ولا هو جريء.
رغم مرور أكثر من عشرين شهرا على المجازر، تبقى أوروبا أسيرة انزعاج أخلاقي لا يُترجم إلى فعل. العقوبات إن وُجدت فهي على أفراد هامشيين، بينما تُستثنى البنوك والشركات والجيش الإسرائيلي من أي مساءلة.
المشهد يعكس تواطؤا صريحا أو صامتا مع منظومة الاحتلال، في مقابل غياب الردع والعجز عن التأثير الجدي.
ليست أوروبا كتلة واحدة كما يحلو للبعض أن يردد. إنها قارة بتضاريس سياسية متفاوتة، فيها دول تهمس بنقد خجول، وأخرى تصرخ بانحيازها، وثالثة ترتدي صمتا أكثر فجاجة من التصريحات نفسها.
في إسبانيا، أيرلندا، النرويج، وبلجيكا، تتقدم على غيرها من دول أوروبا حيث يخرج الصوت الشعبي من صدور منهكة، لكن الحكومات تسير غالبا أمام الشارع لا خلفه، وكأنها تستبق الغضب لتُدجنه لا لتخدمه.
فدول المركز الأوروبي- باريس وبرلين ولندن- ترتب كلماتها كمن يواسي قاتلا مرتبكا. تصف الجرائم، لا الجاني. تعاتب الوحش، ثم تعيده إلى الحظيرة. ترفض السلوك، وتُبقي على العلاقات. توقع اتفاقات شراكة بمليارات اليوروهات، ثم تبكي على صور الأطفال تحت الركام.
وفي خضم هذا التبلد الأخلاقي، شقت ثلاث دول أوروبية هامشا ضيقا في جدار الصمت.
إسبانيا رفعت صوتها لا بالنداء، بل بالفعل؛ ألغت صفقة سلاح بمئات ملايين اليوروهات مع شركة إسرائيلية، ثم صوت برلمانها على حظر تصدير المواد العسكرية التي قد تُستخدم في إبادة أهل غزة.
لم يكن قرارا عاطفيا، بل تمردا على تورط أوروبي صامت، واعترافا ضمنيا بأن السلاح لا يذهب فقط إلى الميدان، بل إلى التاريخ أيضا.
لندا من جهتها لم تُحاضر عن القانون الدولي، بل حملته إلى محكمة العدل، شاهدة لا صامتة. تدخلت رسميا إلى جانب دعوى الإبادة الجماعية، وسحبت استثماراتها من شركات ضالعة في مشاريع الاستيطان، ودفعت بمشروع قانون يُجرم استيراد بضائع المستوطنات. كانت تسير عكس التيار لا لأن الهواء خلفها أنقى، بل لأن الصمت كان خانقا.
أما النرويج، فلم تعد تكتفي بدور الوسيط المُحايد. وضعت إصبعها على الجرح، وأصدرت تحذيرا حكوميا رسميا يمنع شركاتها من التعامل مع المستوطنات، بل مضت أبعد حين قالتها جهرا: “القانون الدولي يجب أن يطبق بشكل متساوٍ، في كل النزاعات، دون انتقائية ولا إعفاءات”. لم تكن مجرد جملة دبلوماسية، بل صفعة على وجه الازدواجية الغربية.
هذه الدول لم توقف المجازر، لكنها فتحت نافذة في غرفة يخنقها التواطؤ، وطرحت سؤالا ثقيلا: كم يساوي صوتك في بورصة الدم؟ وكم ثمن الصمت؟
ذًا، يمكن تصنيف الدول الأوروبية إلى ثلاث فئات:
- دول تُبدي مواقف نقدية نسبيا مثل أيرلندا، النرويج، إسبانيا، سلوفينيا، وبلجيكا.
- دول تعبر عن تحفظات جزئية دون أن تترجمها إلى سياسات فعلية.
- ودول نافذة تبقى في موقع الانحياز والتواطؤ، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، ولا تقدم سوى عبارات ومواقف دبلوماسية ربما لإنقاذ دولة إسرائيل بحل يقوم على دولة وبجانبها شبه دولة للفلسطينيين.
من يراقب المشهد الأوروبي تجاه الإبادة الإسرائيلية المستمرة يُخيل إليه أنه أمام مأساة تُروى بلغة دبلوماسية باردة لا بلغة الدم. تتزاحم العبارات في بيانات القادة: “قلق”، “أسف”، “دعوة لضبط النفس”، وكأنهم يكتبون عن اضطراب طقس لا عن محرقة على الهواء المباشر.
حتى المواقف “التقدمية” لا تعدو كونها انزعاجا لفظيا من سلوك الاحتلال، دون اتخاذ أي إجراءات عقابية جوهرية. الاتحاد الأوروبي لم يتخذ خطوات حقيقية لمراجعة اتفاقيات الشراكة أو وقف تصدير السلاح، رغم توالي المجازر.
في السياق الشعبي، تشهد بعض الدول الأوروبية تصاعدا في الغضب تجاه الاحتلال، لكن هذا الغضب لم يتحول إلى ضغط فعلي على صناع القرار. بل على العكس، كثير من التعبيرات الحكومية تسبق الحالة الشعبية، وكأنها محاولة لتوجيه الرأي العام لا الاستجابة له.
في النهاية، أوروبا لا ينقصها الإدراك، بل الضمير الذي يتجاوز حدود المصالح. وحين تُصبح الأخلاق وجهة نظر، يتحول القتل إلى مجرد تفصيل في دفتر الدبلوماسية.
والأهم أن الاحتلال لم يعد يهمه كيف يبدو في المرايا الأوروبية، فهو يستند إلى حصانة مدججة بالسلاح والدعاية. منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، يتحرك بثقة الواثق بأن العالم ليس أعمى، بل يغض الطرف عامدا متعمدا.
هذا الموقف الأوروبي البارد الأنيق، وكل ما وُصف بالعقوبات ليس سوى استعراض هزلي على أطراف الجريمة: لم يُغلق بنك واحد، ولا شركة استيطانية تم تجفيف مواردها، ولا توقف دعم أوروبا بالذخيرة.
***
نقلاً عن موقع الجزيرة: