د. محمد عمارة
في التاريخ العربي لمدينة القدس, هناك حقائق تاريخية صلبة وعنيدة, تحتاج إلي أن نعيها نحن.. وإلي أن يعيها الآخرون.
فعروبة القدس تضرب في أعماق التاريخ ستين قرنا.. فلقد بناها العرب اليبوسيون في الألف الرابع قبل الميلاد.. أي أن عمر عروبتها قبل الميلاد هو أربعة آلاف عام ـ40 قرنا ـ فإذا أضيف إليها عمر عروبتها بعد الميلاد ـ وهو ألفا عام ـ كان عمر عروبتها ـ اليوم ـ قد تجاوز ستين قرنا!.
ـ وإذا كانت أرض كنعان ـ وهو الاسم القديم لفلسطين ـ قد رحل إليها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ فإن هذا الحدث قد وقع في القرن التاسع عشر قبل الميلاد.. أي أن عروبة القدس سابقة في التاريخ علي عصر أبي الأنبياء إبراهيم بواحد وعشرين قرنا.
ـ وإذا كان المتدينون بالديانات السماوية الثلاث يؤمنون بأن الله قد بارك في القدس وفيما حولها.. فإن هذه المباركة الإلهية سابقة علي رحيل سيدنا إبراهيم إلي هذه الأرض, [ونجيناه ولوطا إلي الأرض التي باركنا فيها للعالمين] ـ الأنبياء:71 ـ فهي أرض مباركة قبل لجوء أبي الأنبياء إليها.. وهذه المباركة الإلهية لهذه الأرض, قد جعلها الله للعالمين.. وليس لفريق دون فريق!
ـ وإذا كان كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ هو الذي بدأت به اليهودية.. ونزلت عليه التوراة بشريعتها.. فإن موسى ـ كما يؤمن الجميع.. ويشهد التاريخ ـ قد كان في القرن الثالث عشر للميلاد.. أي بعد بناء اليبوسيين العرب لمدينة القدس بسبعة وعشرين قرنا.. كما أنه ـ عليه السلام.. قد ولد.. ونشأ.. وتعلم وتربي.. وبعث ونزلت عليه التوراة.. ثم مات ودفن بمصر.. حتى أن توراة موسى قد نزلت باللغة الهيروغليفية ـ لغته ولغة فرعون ـ الذي أرسل إليه موسى ـ ولغة القوم الذين بعث فيهم[وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم] إبراهيم:4 ـ ولم تكن اللغة العبرية ـ يومئذ.. في القرن الثالث عشر قبل الميلاد قد ظهرت بعد.. لأنها في الأصل لهجة كنعانية أصبحت لغة بعد غزو العبرانيين لأرض كنعان.. بقيادة يوشع بن نون ـ أي بعد عصر ظهور اليهودية ونزول التوراة الهيروغليفية ووفاة موسى ـ عليه السلام ـ بأكثر من مائة عام.
ـ وإذا كان العبرانيون القدماء ـ الذين خرجوا من مصر ـ قد غزوا أرض كنعان ـ فلسطين ـ بقيادة يوشع بن نون.. واستعمروا أجزاء من هذه الأرض العربية, فإن وجودهم بمدينة القدس, وسلطانهم علي بهذه المدينة العربية لايتعدي415 عاما ـ في القرن العاشر قبل الميلاد ـ علي عهد داود وسليمان ـ عليهما السلام.. أي أن هذا الوجود العبراني الطارئ والمؤقت في القدس إنما حدث بعد ثلاثة آلاف عام ـ ثلاثين قرنا ـ من عروبة القدس كما أن هذه اللحظة الطارئة التي كان فيها للعبرانيين دولة في القدس, هي نصف عمر الوجود والدولة العربية في الأندلس ـ الذي دام ثمانية قرون ـ كما أنها لا تقاس بألوان الوجود الذي طرأ ـ بالغزو ـ علي كثير من البلاد.. فالرومان أقاموا بمصر دولة دام عمرها عشرة قرون.. وكذلك صنعوا بكثير من بقاع الشرق, دون أن يؤسس لهم ذلك أي حق في أي من تلك البلاد!
ـ ولقد كان طبيعيا ـ عبر هذا التاريخ الطويل والعريق للقدس العربية ـ أن تتوالى علي أهلها عقائد وديانات.. وأن تقوم علي أرضها معابد ـ للوثنية حينا.. وللتوحيد حينا آخر ـ ولقد حدث ذلك في أغلب بلاد الدنيا.. فمصر ـ مثلا ـ عاشت التوحيد الذي بشر به نبي الله إدريس ـ عليه السلام ـ منذ عصر آدم عليه السلام ـ ثم شهدت فترات من الانحراف عن التوحيد إلي الوثنية.. ثم جاءها قمبيز[529 ـ522ق.م] الفارسي غازيا, وأقام فيها معابد لديانة الفرس..
ثم جاءها الاسكندر الأكبر(356 ـ323 ق.م] فقامت فيها معابد للوثنية الإغريقية والرومانية.. ومن مصر خرج الفراعنة إلي ما حولها من البلاد, فأقاموا فيها دولتهم, وبنوا بها معابدهم.. ومثل ذلك حدث ـ وطرأ ـ علي كثير من بلاد الدنيا التي غيرت دياناتها.. وبدلت آلهتها ومعابدها.. ولم يقل عاقل بتغيير خرائط الواقع ـ ذي الجذور التاريخية التي تضرب في أعماق صفحات التاريخ المكتوب ـ مثل عروبة القدس ـ ليحل محل هذا الواقع المعاصر ـ والتاريخي في الوقت نفسه ـ طارئ يعيد لحظة طارئة ـ ومؤقتة من لحظات التاريخ!.. وإلا لجاز أن تقوم للفرس.. أو للرومان حقوق بمصر.. ولجاز أن تقوم لمصر حقوق في البلاد التي عاش فيها الفراعنة, وأقاموا بها المعابد والدول.. ولجاز للرومان ـ الإيطاليين ـ أن يعودوا إلي الجزائر ـ التي أقام فيها أجدادهم لأكثر من ثلاثة قرون ـ.. وإذن لحدثت فوضي رهيبة في خرائط الواقع الذي نعيش فيه.
ـ وعبر هذا التاريخ العربي العريق لمدينة القدس.. تغيرت أسماؤهما عدة مرات.. فالعرب اليبوسيون ـ الذين بنوها قبل ستين قرنا ـ قد سموها يبوس.. ثم تغير اسمها إلي يورد سالم ـ أو يورو سالم ـ أي مدينة السلام ـ.. ثم أطلق عليها الرومان اسم إيليا الكبرى.. فلما جاء الفتح الإسلامي ـ الذي حررها من الاستعمار الروماني سنة15 هـ636 م ـ أراد العرب المسلمون أن يكون اسم هذه المدينة إعلانا عن قداستها, وعن مباركة الله لها منذ تاريخها القديم, فأطلقوا عليها اسم: القدس والقدس الشريف والحرم الشريف!
ـ ولأن وحدة الدين الإلهي ـ من آدم إلي محمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هي عقيدة من عقائد الإسلام ـ الدين واحد.. وفي إطار عقائده الواحدة والثابتة, تتعدد الشرائع بتعدد واقع المراحل التاريخية التي ظهر فيها الرسل والأنبياء..
ولأن ختم رسالات السماء إلي البشر, برسالة محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ هو أيضا عقيدة من عقائد الإيمان الديني الإسلامي.. كان الربط.. والرباط الذي جاء في القرآن الكريم بين الحرم المكي الشريف وبين الحرم القدسي الشريف, عقيدة دينية إسلامية تجسد وترمز إلي عقيدة وحدة الدين الإلهي.. فالحرم المكي ـ الذي هو أول بيت ــ في الأرض ــ عبد الله فيه [إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم] ــ آل عمران: 96-97. وهو الحرم والبيت الذي أقام قواعده, وأعاد بناءه, وطهره أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل ــ عليهما السلام ــ [وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم] ـــ البقرة:127 ــ ولأن أبا الأنبياء ــ إبراهيم ــ عليه السلام ــ الذي أقام قواعد البيت الحرام ــ في رحلته الحجازية ــ قد كانت له رحلة أخري ــ ضمن رحلاته ــ إلي أرض كنعان ــ حيث القدس العربية ــ التي غدت قبلة للنبوات السابقة علي نبوة الإسلام الخاتمة..
بل والتي صلي إليها المسلمون ــ مع الكعبة ــ ثلاثة عشر عاما ــ في العهد المكي للدعوة الإسلامية ــ وثمانية عشر شهرا بعد الهجرة من مكة إلي المدينة ــ[ حتي17 شوال سنة2 هـ] ــ.. لأن أبا الأنبياء إبراهيم قد أقام هذه العلاقة بين أول بيت وضع للناس في الأرض ــ الحرم المكي الشريف ــ وبين القدس ــ قبلة النبوات التي تلت نبوة إبراهيم.. ولأن نبوة نبي الإسلام ــ محمد ــ صلي الله عليه وسلم ــ هي التي جددت ملة إبراهيم [قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا] ــ آل عمران:95 [ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا] ــ النساء:125 ــ [قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا] ــ الأنعام:161 وهي النبوة التي أحيت وجددت مناسك ملة إبراهيم ــ في الحج ــ تلك المناسك التي أقامها في رحلته الحجازية..
———————————————-
من أعظم وأقوي الروابط العقدية والإيمانية الرباط القرآني بين الحرم المكي الشريف وبين الحرم القدسي الشريف فهو عقيدة من عقائد الإسلام ــ في وحدة الدين ــ [سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير] ــ الإسراء:1..
وإذا كان القرآن الكريم هو معجزة النبوة الخاتمة, التي وقع وقام بها التحدي, وثبت به صدق محمد ــ صلي الله عليه وسلم ــ وإذا كان الإيمان الإسلامي يقر بوقوع وحدوث معجزات مادية لرسول الإسلام.. فلحكمة بالغة أن القرآن الكريم لم يذكر من المعجزات المادية للنبي ــ صلي الله عليه وسلم ــ سوي معجزة الإسراء والمعراج ــ التي مثلت الرباط العقدي بين الحرم المكي الشريف وبين الحرم القدسي الشريف ــ كتجسيد لعقيدة وحدة دين الله الواحد, والربط بين قبلة النبوة الخاتمة وقبلة النبوات التي سبقت نبوة الإسلام.
ـ ولأن هذه هي المكانة الدينية والإيمانية للقدس الشريف في العقيدة الإسلامية, كان التميز والامتياز في موقف المسلمين من هذه المدينة المقدسة منذ اللحظة الأولي لتاريخها الإسلامي.. فهي مدينة عربية قديمة.. استعمرها الرومان عشرة قرون ــ منذ الاسكندر الأكبر[356 ــ323 ق.م] ــ في القرن الرابع قبل الميلاد ــ وحتى هرقل[610 ــ641 م] ــ في القرن السابع للميلاد.. ولقد احتكرها الرومان لأنفسهم وحدهم ــ سواء في عصر وثنيتهم.. أو في عصر نصرانيتهم, ومذهبهم الملكاني ــ ودمروا الوجود اليهودي فيها.. فلما حررها المسلمون ــ ضمن تحريرهم لأوطان الشرق ولعقائد أهله ــ أعادوا لها قدسيتها الدينية.. وأشاعوا هذه القدسية بين كل أصحاب المقدسات, وذلك ــ أيضا ــ انطلاقا من عقيدة دينية إسلامية, يتفرد بها الإسلام والمسلمون, وهي الاعتراف بكل النبوات والرسالات, ومن ثم تقديس كل مقدسات أتباع كل النبوات والرسالات [آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله] ــ البقرة:285.
ولقد تجسدت هذه العقيدة الإسلامية ــ عقيدة قداسة القدس.. وإشاعة قداستها بين جميع أتباع الديانات السماوية, وأصحاب المقدسات الدينية ــ تجسدت هذه العقيدة الإسلامية وتجلت ــ في تعامل المسلمين مع هذه المدينة منذ اللحظات الأولي لتاريخها الإسلامي.. وطوال هذا التاريخ.
فهم الذين سموها القدس.. والقدس الشريف.. والحرم القدسي الشريف.. ليكون الاسم عنوانا علي عقيدة المسلمين في قدسيتها وتقديسها.
ـ وهم ــ وحدهم ــ الذين عاملوها معاملة الإسلام للحرم ــ الذي يحرم فيه القتال وسفك الدماء ــ فكانت مثل مكة ــ التي حرص المسلمون علي فتحها سنة8 هـ ـ سنة629 م سلما ــ رغم تاريخ أهلها الذين عذبوا المسلمين.. وفتنوهم في دينهم.. وأخرجوهم من ديارهم.. ومردوا علي غزو المدينة ومحاولات استئصال المسلمين فيها.. والمدينة ــ الحرم الإسلامي الثاني ــ فتحها المسلمون بالقرآن ــ وكذلك عامل الفاتحون المسلمون القدس ــ ثالث الحرمين ـــ معاملة الحرم, فحرصوا علي مصالحة أهلها, وتجنب القتال فيها.. بل لقد تفرد موقفهم منها أيضا عندما استجابوا لمطلب أهلها ــ بقيادة البطريرك صفرينيوس[17 هـ638 م] ــ الذي طلب أن يتسلم مفاتيح المدينة خليفة المسلمين ــ الراشد الثاني ــ عمر بن الخطاب[40 ق. هـ23 هـ584 ــ644 م] ــ رغم أن قائد جيوش الفتح الإسلامي بالشام يومئذ كان أمين الأمة الإسلامية أبو عبيدة بن الجراح[40 ق هـ ـ18 هـ584 ـ639 م].. فسار عمر من المدينة إلي القدس, ليتسلم مفاتيحها.. وليحقق المسلمون لهذا الحرم القدسي الشريف هذه الفرادة التي لم تحظ بها مدينة من المدن التي فتحها المسلمون!..
ـ والمسلمون لم يشيعوا قداسة القدس بين كل أصحاب المقدسات ــ فقط ــ بل إنهم ــ انطلاقا من تفردهم بالاعتراف بكل النبوات والإيمان بجميع الرسالات, قد قدسوا مقدسات الآخرين.. فرسولهم ــ صلي الله عليه وسلم ــ قد علمهم ليس فقط الاعتراف.. والإقرار بمقدسات الآخرين.. بل وأوجب عليهم حماية مقدسات الآخرين!.. فهو الذي كتب للنصارى سنة15 هـ سنة631 م وثيقة دستورية يقول فيها:
وأن أحمي جانبهم, وأذب عنهم, وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم, ومواضع الرهبان, ومواطن السياح, حيث كانوا.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي, وأهل الإسلام من ملتي..
لقد قدس المسلمون مقدسات الآخرين.. ولذلك, فإن عمر بن الخطاب, عندما احترم قداسة كنيسة القيامة, واعتذر للبطريرك صفرينيوس عن عدم الصلاة فيها ـ عندما حان وقت الصلاة ـ كي لا يؤسس لشبهة حق إسلامي في الموضع الذي صلي فيه ـ لم يكن يصدر عن مجرد السماحة المتألقة. التي تمنح وتمنع, وإنما كان يصدر عن عقيدة إيمانية إسلامية إزاء مقدسات الآخرين!.
ـ والمسلمون ـ انطلاقا من هذه المكانة المقدسة للقدس في العقيدة الدينية الإسلامية ـ كانوا هم الحريصين علي إعادة الطهر والطهارة إلى كل الأماكن التي سبق وعبد الله فيها ـ في القدس وفي فلسطين ـ فلقد تجول عمر بن الخطاب في ربوع القدس, فوجد الرومان ـ الذين دمروا معابد الآخرين ـ قد جعلوا من أماكن العبادة هذه مقالب للنفايات والقاذورات!.. فكان أمير المؤمنين عمر ـ ومعه صحابة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يفرشون أرديتهم, ويحملون عليها هذه النفايات, كي يعيدوا الطهر والطهارة إلى الأماكن التي سبق وعبد الله فيها في هذه المدينة وتلك البلاد!..
ـ والمسلمون هم الذين أعادوا اليهود إلى سكني القدس ـ بعد أن كانوا مطرودين منها! ـ وعلي الرغم من أن نصارى هذه المدينة قد طلبوا من عمر بن الخطاب ألا يسكن معهم فيها أحد من اليهود أو اللصوص!.. لكن العقيدة الدينية الإسلامية في إشاعة قداسة القدس بين كل أصحاب هذه المقدسات كانت فوق المطالب التي أملتها المنافسات.. والثارات بين أتباع الشرائع والديانات..
ـ ولأن المسلمين هم الذين يعترفون بكل ألوان الآخر الديني ـ ويتفردون بذلك ـ فلقد رأت الطوائف النصرانية المقدسية المتنافسة علي الأماكن النصرانية المقدسة.. رأت في المسلمين الحكم ـ المحايد ـ والعدل بين هذه الطوائف.. فنصت كثير من حجج أوقاف كنائس القدس, وحفظ مفاتيح هذه الكنائس, علي أن يكون نظار هذه الأوقاف وحاملو هذه المفاتيح أسرا مسلمة, يتوارث أبناؤها نظارة الأوقاف الكنسية وحمل مفاتيح الكنائس, وذلك تلافيا للمنافسات والمشاحنات التي اتسمت بها علاقات هذه الطوائف ـ تاريخيا.. وحتى هذه اللحظات, كما هو الحال مع دير السلطان!!..
ـ ولأن هذه المكانة الدينية للقدس هي عقيدة دينية إسلامية.. وليست مجرد سماحة يمنحها حاكم ويمنعها آخر.. فلقد استمرت هذه المكانة.. وهذه المعاملة للقدس الشريف عبر تاريخ الإسلام..
————————
… لقد ظل المسلمون يشيعون قداسة القدس بين جميع أصحاب المقدسات.. بينما أعاد الصليبيون احتكارها لمذهبهم اللاتيني, وحولوا المسجد الأقصى إلى اصطبل خيل!.. ومخزن سلاح!.. وكنيس لاتيني!.. وظل المسلمون يعاملون القدس معاملة الحرم الذي لا يجوز القتال فيه ولا سفك الدماء علي أرضه.. فحررها صلاح الدين الأيوبي[532 ـ589 هـ1137 ـ1193 م] من الاغتصاب الصليبي سنة583 هـ1187 م ـ بعد قرابة التسعين عاما من الاغتصاب..
وكما دخل رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الحرم المكي يوم الفتح سنة8 هـ629 م ـ ساجدا لله علي راحلته في منظر فريد غير مسبوق ـ كذلك سجد صلاح الدين الأيوبي علي تراب باب القدس ساعة تحريرها ـ سلما وصلحا ـ من الاغتصاب الصليبي.. وكما لم يجاز رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أهل مكة عنفا بعنف ـ لأن مكة حرم ـ كذلك كظم صلاح الدين الأيوبي غيظه, فلم يصنع بالقدس ما صنعه الصليبيون عندما احتلوها سنة493 هـ1099 م.. فقتلوا وحرقوا وذبحوا سبعين ألفا من أهلها ـ مسلمين ويهودا! ـ ولم يرحموا حتى الذين احتموا بمسجد عمر ـ مسجد قبة الصخرة ـ فذبحوهم بالمسجد, حتى تحولت دماء الضحايا إلى أمواج سبحت فيها خيول فرسان الإقطاع الصليبيين إلى لجم الخيل!! ـ كما حكي شهود العيان من نصارى المؤرخين!..
لم يصنع صلاح الدين شيئا من ذلك الذي صنعه الصليبيون ـ ومن قبلهم الرومان ـ انطلاقا من عقيدته الإسلامية في القدس.. وضميره الديني إزاء هذا الحرم المقدس..
ـ وهذا الذي صنعه الصليبيون.. ومن قبلهم الرومان.. صنعه المستعمرون الإنجليز سنة1917 م عندما اقتحم الجنرال اللنبي[1861 ـ1936 م] مدينة القدس, معتبرا غزوته هذه نهاية الحروب الصليبية!..
وهو الذي صنعته الصهيونية سنة1967 م عندما اقتحمت القدس.. لتهودها.. وتحتكرها.. ولتعيد ـ علي أرض القدس ـ هذا الفصل الدامي والبائس من احتكار هذه المدينة المقدسة.. ومن تدنيس وتدمير المقدسات غير اليهودية.. ومن تدمير الوجود العربي في القدس ـ ذلك الوجود الذي يضرب في عمق التاريخ لأكثر من ستين قرنا ـ أي السابق علي وجود اليهودية واليهود بأكثر من سبعة وأربعين قرنا!..
وليثبتوا ـ دون أن يقصدوا ـ تفرد الموقف الإسلامي من هذه المدينة المقدسة.. عندما عاملها ـ عبر تاريخ الإسلام فيها ـ معاملة الحرم المقدس.. الذي لا يجوز فيه القتال ولا سفك الدماء فيه.. والذي تجب إشاعة قدسيته بين جميع أصحاب المقدسات.. أي أن إسلامية القدس, والسلطة العربية الإسلامية فيها هي الضمان لبقائها حرما آمنا للجميع.. وميراثا مقدسا لكل أصحاب المقدسات.. هكذا كانت عروبة القدس, حقيقة صلبة وعنيدة ضاربة في عمق أعماق التاريخ.. وهكذا كانت إسلامية القدس ـ بشهادة التاريخ.. وبحكم العقيدة الدينية الإسلامية ـ الضمان لجعلها ميراثا مقدسا لكل أصحاب المقدسات.. وعن هذه الحقيقة عبر صلاح الدين الأيوبي ـ في رسالته إلى الملك الصليبي ريتشارد قلب الأسد[1157 ـ1199 م] عندما قال له:
القدس إرثنا كما هي إرثكم.. من القدس عرج نبينا إلى السماء.. وفي القدس تجتمع الملائكة.. لا تفكر بأنه يمكن لنا أن نتخلى عنها كأمة مسلمة.
أما بالنسبة إلى الأرض, فإن احتلالكم فيها كان شيئا عرضيا, وحدث لأن المسلمين الذين عاشوا في البلاد حينها كانوا ضعفاء..
ولن يمكنكم الله أن تشيدوا حجرا واحدا في هذه الأرض طالما استمر الجهاد.
إنها مدينة عربية إسلامية عريقة.. شهد تاريخها من الفصول والصفحات ما جعلها رمز الصراع بين الحق والباطل.. وبوابة الانتصار في هذا الصراع التاريخي الطويل..
وصدق رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ حيث قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين, لعدوهم قاهرين, لا يضيرهم من خالفهم, إلا ما أصابهم من لأواء ـ[ شدة ومحنة] ـ حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك
قالوا: يا رسول الله, وأين هم؟
قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ـ رواه الإمام أحمد.
إن حقائق الأرقام تقول لنا ـ وللعالم ـ إن التاريخ العثماني لفلسطين قد حافظ علي عروبة سكانها وعلي عروبة أرضها.. فالوجود اليهودي في فلسطين سنة1918 م لم يتعد55,000 نسمة ـ أي8% من السكان.. ولم تتعد ملكيتهم في الأرض نصف مليون دونم ـ أي2% من أرض فلسطين..
ـ لقد دمرت إسرائيل سنة1948 م538 قرية فلسطينية, واستولت علي أراضيها.
لما استولت علي أراضي الأوقاف الخيرية الفلسطينية.. وعلي أراضي الأملاك الأميرية, وبعد عدوان سنة1967 م توحش الاستعمار الاستيطاني ليبتلع كل فلسطين.
ففي غزة, تم توسيع الشريط الحدودي علي الجانب الفلسطيني ـ المنطقة الأمنية العازلة ـ بما مساحته24% من مساحة القطاع!.. كما تم تدمير275 دونم في شهر ديسمبر2007 م.
وفي الضفة الغربية, تم تقسيمها إلى أربعة أقسام:1 ـ القدس2 ـ غرب الضفة3 ـ غور الأردن4 ـ جنوب الخليل, وذلك لتقطيع أوصالها بالمستوطنات.
وأقيم الجدار العنصري العازل, الحامي للاستيطان, والمبتلع للأراضي الفلسطينية ـ والذي بني منه450 كيلومترا, ولم يبق منه سوي80 كيلومترا ـ برغم قرار محكمة العدل الدولية بعدم مشروعيته وتمثيله جريمة حرب تغير طبيعة الأرض المحتلة.
كما تم ـ علي أرض الضفة ـ تجريف80,712 دونم في أثناء الانتفاضة الثانية من2000/2/8 م وحتي2006/1/31 م.
وتم الاستيلاء علي85% من مياه الضفة, بحيث أصبح للفلسطيني60 لترا, وللمستوطن اليهودي280 لترا.
وفي سنة2007 وحدها تم اقتلاع وتجريف وحرق34,650 شجرة في الأراضي الفلسطينية!.
ـ أما القدس ـ التي بناها العرب اليبوسيون قبل ستين قرنا ـ فلقد ابتلعها الاستيطان, وأوشك تهويدها واحتكارها وتهديد مقدساتها علي التمام!
ـ وفي2004/4/14 م أعطي الرئيس الأمريكي بوش لشارون رسالة الضمانات التي تعهدت فيها أمريكا ببقاء الوقائع علي الأرض في المفاوضات النهائية للتسوية.. أي بقاء الاستعمار الاستيطاني الذي ابتلع القدس وفلسطين!.
تلك هي حقائق التاريخ ـ القديم والحديث والمعاصر ـ للقدس الشريف.. ولفلسطين..
وإذا كان الوعي بالتاريخ ـ وليس مجرد قراءته ـ هو سلاح من أمضي الأسلحة في صناعة التاريخ, فإن الوعي بمكانة القدس في التاريخ العربي.. وبمكانتها في العقيدة الإسلامية, هو السلاح المحرك للملكات والطاقات.. والسبيل لإنعاش الذاكرة بالحق السليب.. حتى يأتي اليوم الذي تجتمع فيه للأمة الإرادة والإدارة التي تعيد لها هذا الحق السليب.
نشرت بجريدة الأهرام المصرية (بتاريخ 3 – 10 – 17/10/2009م)
