زكريا أحمد

الشهيد في اللغة أصْله من الشهود والحضور، ومنه الشهادة التي تُقابل الغيب؛ كما يقول الله – تعالى -:  عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام : 73]‏‎.‎

‎ ‎

‎ ‎ومنه الشاهد الذي يَشهد بما رأى أو سَمِع أو عَلِم، فيخرج ما رآه أو سَمِعه أو عَلِمه من السرِّ إلى العَلن، ومن الْخَفاء إلى الظهور، وقد ورَد ‏لفظُ الشهيد في القرآن الكريم في أكثر من موضع؛ مثل: قوله – تعالى -: ” وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ” [المجادلة: 6]، وقوله – تعالى -: ” ‏وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ” [المائدة: 117]، وكلُّها تَحملُ معنى الظهور الذي يدل على العُلوِّ، الذي يدلُّ بدوره على التمكين والإحاطة ‏بما هو واقع تحت المشاهدة‎.‎

‎ ‎

‎ ‎وقد غلبَ لفظ (الشهيد) في لسان الشريعة على مَن يُقْتل مجاهِدًا في سبيل الله، ولكن مَن ينظُر في القرآن الكريم، يجد أنَّ لفظ (شهيد) لَم يردْ ‏في المواضع التي أورده فيها القرآن بهذا المعنى الذي يدلُّ على الاستشهاد في سبيل الله، بل نرى القرآن الكريم قد آثَر لفظ (القتْل) على لفظ ‏الاستشهاد عند ذِكْر القتال، والقتْل في سبيل الله كما في قوله – تعالى -: ” وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا ‏تَشْعُرُونَ ” [البقرة: 154]، ولَم يَجِئ النظم القرآني بلفظ (يستشهد) بدلاً عن لفظ (يقتل)، الذي جاء عليه النظم القرآني‎.‎

‎ ‎

ومثل هذا قوله – تعالى -: ” وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ” [آل عمران: 169]، وقوله – سبحانه ‏وتعالى -: ” وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ” [آل عمران: 157]، وقوله – تعالى -: ” وَمَنْ يُقَاتِلْ ‏فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ” [النساء: 74]، وقوله – سبحانه -: ” إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ‏بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ” [التوبة: 111]، وهكذا نرى الآيات القرآنية تتوارَد على لفظ (القتْل)، ولا نجد موضعًا ‏واحدًا جاء فيه لفظُ استشهاد بدلاً عن لفظ القتْل‎.‎

‎  ‎

الصورة التي رسَمها القرآن الكريم للشهيد:

إنَّ الصورة التي رسَمها القرآنُ الكريم والسُّنة النبويَّة المطهَّرة للشهيد، والمنزلة العالية التي رفَعه إليها، والمقام الكريم الذي أحلَّه فيه في ‏دار البقاء لَمَا يتنافس فيه المؤمنون، ويعمل له العاملون، وحسب المسلم أن يستمعَ إلى قوله – تعالى -: ” وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ ‏أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ” [محمد: 4 – 6]‏‎.‎

‎ ‎

وحسب المسلم أن يعلمَ أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مَن هو عند ربِّه في مقام الإكرام والإحسان، حسبه أنْ يعلمَ أنَّ رسول الله ‏‏- صلى الله عليه وسلم – يتمنَّى الموت في سبيل الله لا مرة واحدة، بل مرَّة، ومرَّة، ومرَّة، فيقول – صلوات الله وسلامه عليه – فيما رواه ‏مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((والذي نفسي بِيَده، لوددتُ أن أغزو في سبيل ‏الله فأُقْتل، ثم أغزو فأُقْتل، ثم أغزو فأُقْتل))‏‎.‎

‎ ‎

بحسب المسلم أن يعلمَ هذا، فيتأكَّد له أنه لا مَطلب أعزَّ ولا أكرم، ولا أشرف من الموت في سبيل الله، وبحسب المسلم أن يستمعَ إلى قوله ‏النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نفسٍ تموت، لها عند الله خيرٌ، يَسُرها أنها ترجع إلى الدنيا وأنَّ لها الدنيا وما فيها، إلاَّ الشهيد؛ فإنَّه ‏يتمنَّى أنْ يرجِعَ، فيُقْتل مرة أخرى))‏‎. ‎

‎ ‎

بحسب المسلم أن يستمعَ إلى هذا مِنَ الصادق الأمين الذي لا يَنْطق عن الْهَوَى، فتهون عليه نفسُه وأهله، وماله وولدُه في سبيل الله من أجْل ‏أن يَلْقى الله في زُمرة الشهداء، مصبوغًا بالدم الذي أُريق منه على جسده، والذي يطلعُ به على أهْل الموقف يوم القيامة، شهادة ناطقة بأنه من ‏المجاهدين في سبيل الله؛ يقول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -: ((ما مِن مكلومٍ يُكْلَم في سبيل الله، إلاَّ جاء يوم القيامة وكَلْمه يدْمَى، ‏اللون لون دمٍ، والريح ريح المسك))؛ رواه البخاري‎.‎

‎ ‎

الشهيد أصاب الفردوس الأعلى:

روى البخاري عن أنس – رضي الله عنه – قال: سألتْ أُمُّ حارثة النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ابنها حارثة، وكان قُتل يوم بدر، فقالتْ: ‏يا رسول الله، إنْ كان ابني في الجنة صبرتُ، وإنْ كان غير ذلك، اجتهدتُ في البكاء عليه، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((يا أُمَّ حارثة، ‏إنها جِنان في الجنة، وإنَّ ابنك أصابَ الفردوسَ الأعلى))، وروى البخاري ومسلم أنَّ عبدالله بن عمر بن حرام – وهو والد جابر بن عبدالله – ‏استُشْهد يومَ بدر، فبكتْه أُخته، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تُظِلُّه بأجنحتها حتى ‏رفعتموه))، وروى مسلم، فقال: خرَج النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوة، فلمَّا أفاءَ الله عليه، قال لأصحابه: ((هل تفقدون من أحدٍ؟))، ‏قالوا نعم: فلانًا وفلانًا، ثم قال: ((هل تفقدون من أحدٍ))، قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا، ثم قال: ((هل تفقدون من أحدٍ؟)) قالوا: لا، فقال – عليه ‏الصلاة والسلام -: ((فإني أفقد جُلَيْبِيبًا، فاطلبوه في القتْلى، فطلبوه فوجدوه إلى جنبِ سبعة قتَلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي – صلى الله عليه وسلم ‏‏- فقام عليه، وقال: ((قتَل سبعة، ثم قتلوه؛ هذا منِّي وأنا منه))، ثم وضَعه النبي – صلى الله عليه وسلم – على ساعِدَيه، ليس له سرير إلا ‏ساعِدَي النبي – صلى الله عليه وسلم – فحَفر له ووضَعه في قبره، هذا ولَم تكنْ تلك المنزلة العالية التي رفَع إليها الإسلام قدْرَ الشهيد، ‏وأعلى بها مقامه – لَم تكنْ من مُعطيات هذا الدِّين وحْدَه، وإنَّما هي مما جعَل الله لكلِّ مَن يقاتلون في سبيله، ويقدِّمون أنفسَهم قُربانًا لله، ‏وانتصارًا لدينه، ودفاعًا عن حُرماته‎.‎

‎ ‎

الإسلام دين عقل وحجة:

‎ إنَّ الإسلامَ دينُ العقل والحجة، فهو أظهرُ من أن يناقشَ في الدماء التي أراقها تابعوه، وأعمق من أن يأْتيه الشكُّ من بين يديه أو من خلفه، ‏ترى أيها المسلم الكريم كيف كان آباؤك؟ وكيف كانت شعوب الدعوة الإسلامية؟ وكيف كانت القيادة النبويَّة والقاعدة الشعبية المؤمنة؟ وكيف ‏كان الاستشهاد؟ لقد طبَّل كُتَّاب الغرب ذات مرة ورمزوا لجندي فيهم ذهَب إلى معركة من معارك التحرير، وزعموا أنَّه وهو ذاهب إلى ‏المعركة في رحلةٍ بها يَلقى أجدادَه وأهله الذين ماتوا، وفي كلِّ هذا ندعُ الفارق بين البطولات؛ بطل عربي مسلم يَطلب الشهادة، وجندي ‏معدود في زُمرة الأبطال عندهم؛ لأنه طلب الموت للقاء أجداده وأصدقائه، فما هو الفرق بين التضحية والهدف؟ ما هو ميزان النصر ‏والهزيمة في دنيا الناس لو سلَك المسلمون اليوم طريقَ الجهاد؟ وماذا فعَل الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله‎.‎

‎ ‎

الشهيد حريص على خروجه من الدنيا في سبيل الله:

‎ ‎والحقَّ أقول: إنَّ كلَّ ما كان يحرص عليه الشهيد هو أنْ يكون خروجُه من الدنيا في سبيل الله، وهو لذلك فَرِح مسرور، ولا سيَّما حينما ‏تزفُّ بُشرى استشهاده إلى إخوانه الباقين في الصفوف الأماميَّة إلى جانب غبطته الكبرى التي يَسعى لها، وهو الاجتِماع بالشهداء الذين ‏سبقوه إلى ساحة الخلود من بابٍ واسعٍ، لا يدخله إلا الشهيد المقاتل الذي عاف أنْ يموتَ كما يموت البعير أو العجوز على فراشها على حدِّ ‏تعبير أحد القادة، إنَّ الشهيدَ المقاتل في مفهوم الإسلام هو الذي يقاتل في سبيل الله ولإسعاد مجتمعه، يرى الجبن عارًا، والفرار من الزحف ‏كفرًا – إنْ لَم يحقِّق بدمه العَدالة الاجتماعية‎.‎

‎ ‎

إنَّ القتال في سبيل الله عبادة من أشرف العبادات في الإسلام، له أهداف وقواعد وأحكام يَلتزم بها المسلم؛ ليكونَ في شرف استقبال الشهادة ‏‏- إنْ أَذِن الله له بها، وليس الأمر في نظر القرآن دعوة إلى الحرب والقتال، ولا إلى الارتماء في أحضان الموت، ولا استعراضًا للبراعة ‏في استعمال الأسلحة؛ ليعرفَ مَن هو الغالب والمغلوب، فلقد أمرَ الله بعدم التعرُّض لِمَن سالَم المؤمنين؛ قال الله – تعالى -: ” فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ‏فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ” [النساء: 90]‏‎.‎

‎ ‎

وليس الهدف هو الخروج من ساحة معركة؛ لاقتحام أخرى فهذا هدف يَبعد كلَّ البُعد عن الأهداف الإسلاميَّة الإنسانية التي تُسْعِد ‏المجتمعات‎.‎

‎ ‎

درس في فن القيادة ونموذج فريد في الشهادة:

‎ ‎بينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسوِّي الصفوف في غزوة بدر، ويستحثُّ الْهِمم للقتال، تَعمَّد سواد بن غزية الخروج عن النظام ‏حِيلة منه، فطعَنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالقدح في بطنه، قائلاً له: ((استوِ يا سواد))، وإذا بالصحابي الجليل يتصنَّع الوجعَ من ‏وكزة القدح، ويطلب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القصاص؛ ليكون أوَّلَ اختبار للقيادة النبويَّة الرحيمة في ساحة الجهاد، وليكون ‏أوَّلَ درْسٍ من النبوَّة يُلْقِي الضوء على القيادة فيما بعد، وفي أحرج المواقف، ويَكْشف الرسول الكريم للصحابي عن بَطْنه؛ ليقتصَّ منه، ‏قائلاً: ((اقتصَّ يا سواد))، فيقول: يا رسول الله، ليس بي ألَمٌ، وإنَّما أردتُ أن يَمسَّ جِلدي جلدك، ثم أقبل على بَدَن الرسول يُقَبِّله، وواضح ‏هنا أنَّ هذا المجاهد الذي عزَم على أن يقدِّم نفسَه في سبيل الله؛ إمَّا أن يكون أراد أن يتزوَّد من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل ‏الرحيل؛ ليضمَّ نعيمًا إلى نعيم، ويقينًا إلى يقين، وهو حبُّ الرسول وإلصاقُ بدنه ببدنه، وإمَّا أنْ يُقدِّم لنفسه ولقومه القيادة المتواضعة ‏المشاركة عدلاً ورحمةً ومثاليَّةً، فيقاتل المسلم باستماتة تحت لوائها‎.‎

‎ ‎

نماذج من الشُّهداء في الاستماتة في المعركة والصبر والطاعة للقيادة:

‎ ‎عمرو بن الجموح يَطلب من النبي – صلى الله عليه وسلم – في المعركة أنْ يدعو الله له بأن يرزقَه الشهادة في سبيل الله، وإلى جانب الشهادة ‏طلَب من رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن يدعو له أيضًا بأنْ تَصْحبَه عرجةُ قَدَمِه في الجنة، ويستجيب الله دعاءَ الرسول الذي قاله ‏للصحابة بعد المعركة: ((إنَّ الشهيد عمرو يتبخْتر بعرجته في الجنة))‏‎.‎

‎ ‎

صحيح أنَّ الشهيد رجل السماء في الأرض، يرسم طريق الحياة للناس من بعده بدَمِه، ويُخَطط الحياة العزيزة الكريمة عن طُرق ومطالب ‏تختلف عن طرق ومطالب الآخرين، وإنها طريق الله والنبوَّة الكريمة، ومطالب الملائكة والصِّدِّيقين من السماء لأهْل الأرض، يُطَبِّقها هؤلاء ‏الصحابة؛ لتبقى حيَّة نادرة في حياة الناس‎.‎

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

اقتراع على الاستشهاد في سبيل الله:

‎ ‎هذ هو الشهيد خيثمة أبو سعيد يقول للنبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في طريقه إلى غزوة أُحد: يا رسول الله، إمَّا أنْ يُظهرنا الله عليهم، ‏أو تكون الأخرى، وهي الشهادة التي أخطأَتْني في غزوة بدر، فلقد بلَغ من حِرْصي عليها يا رسول الله أنِّي استهمتُ أنا وابني في الخروج ‏إلى معركة بدر؛ ليبقى أحدُنا يعولُ الأهل، وخرَج السهم له وذهَب إلى القتال في بدر، ورزَقه الله الشهادة، وقد رأيتُ ابني البارحة في النوم ‏وهو يقول لي: الْحِقْ بنا يا أبتِ، ورافقني في الجنة؛ فقد وجدتُ ما وعَدني ربِّي حقًّا، وهكذا يستمرُّ في حديثه وهو يبكي بين يدي رسول الله ‏‏- صلى الله عليه وسلم – يَطلب منه الإذن والدعاء له بالاستشهاد ثم يَختم قوله: لقد أصبحتُ مشتاقًا إلى مرافقة ابني وإخوانه من الشهداء، ‏كما أحببتُ لقاءَ الله؛ فادعُ الله لي بالشهادة يا رسول الله‎. ‎

***********  

نقلاً عن موقع رابطة العلماء السوريين

‎ ‎