22/10/2024
د. عمر الجيوسي
لم نشاهد صورته … لم نسمع منه تصريحاً أو بياناً في الحرب… لكنه في اللقطة الشهيرة والأخيرة يوم استشهاده كان أبلغ منه حيا…
ضجت التغريدات والمواقع وشاشات الأخبار بخبرٍ ظنه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إغلاقَ حساب مع قائد المقاومة… بقي الاحتلال مصدوما، فقد فاجأتهم الصُّورة الأخيرة… القائد الذي حسِبوه طريدة هاربة منذ زمن ها هو يخرج إليهم… يطاردهم… يدخل عليهم الباب مرة أخرى، وأخرى.
رأت الدنيا مشهده الأخير… بندقيته ومسدسه وجعبة الذخيرة والمصحف والمسبحة وكُتيّب الأذكار والدم ومسك الشهادة…
موت إمبراطوري على أريكة امتلأت بغبار سنابك خيل الله…
ربما كان يتمتم: إلهي… خذ من دمائي، ومن جسدي ما شئت واجمع يدي بيد جعفر الطيار في جنتك.
أشاع الأعداء أن “السنوار” يتمترس بالمدنيين وبالأسرى المختطفين خوفا من الموت.
ألقى عصاه لتلقف ما يأفكون، وما يشيعون…. تراءى له مشهد جنود الاحتلال المدججين بالأسلحة والتقنية والخوف، ينتحرون خوفا من الموت… ومشهد جنوده الذين يمضغون لحم دبابة الميركافا.
مضى وهو يتقدم الصفوف، ويتخطى رقاب الأعداء… حقق حلم حياته… مضى القائد وهو يوصي: لا ترْثـُـوني… انطلقوا… لا وقت لتضييع الوقت… طريق التحرير دونكم… وطوفانكم قد انطلق… ولن يتوقف.
عاش حياته مطارداً، وأسيراً، ومطلوباً، ومحاصرا، ومقاتلاً، ومحرِّضاً… وكانت بدايته تنبئ عن نهايته؛ فمضى برتبة شهيد…
لم يحرص على له جنازة تليقُ به… مضى وهو يرتل (وعجلت إليك ربِّ لترضى).
بين شهادة الميلاد وقصة الاستشهاد سيرة قائد ستـُكتب عنه كتب وبرامج ومنشورات تبدأ من شهادة ميلاد مكتوب فيها: يحيى إبراهيم حسن السنوار ولد في أكتوبر 1962 في غزة… وطويت باستشهاد قائد استشهد في بزّته العسكرية في أكتوبر 2024 في غزة.
وما بينهما قصة فتى ترعرع في طرقات مخيمٍ بيوتُه متلاصقة يغطيها الصفيح في زقاق لا تتسع لتشييع موكب عرس ولا جنازة.
شظف العيش كان نصيب عائلة يحيى السنوار التي هُجّرت من مدينة المجدل عقب “نكبة 48″… شهد الطفل يحيى “نكسة 1967”. وتراكمت ذكريات الهزيمة والنكسة والقهر في صدره، وعاشت وكبرت فيه وطنيةً وقهراً.
… بدأ نشاطه بالعمل الطلابي والتنظيمي في ذلك الظرف الضَرِم تحت مظلة “الكتلة الإسلامية”.
اعتقل لأول مرة عام 1982؛ بسبب نشاطه الطلابي، وكان عمره حينها 20 عاما، واعتقل مرات أخرى… وحوكم بتهم تتعلق بقيادة عملية اختطاف، وقتل جنديين من جيش الاحتلال، وقتل 4 عملاء، وصدرت بحقه 4 مؤبدات (مدتها 426 عاما).
حاول الهروب من سجنه مرتين؛ لكنه لم ينجح…
خلال فترة اعتقاله تولى قيادة الهيئة القيادية العليا لأسرى “حماس” في السجون.
كان عصاميا عنيدا حتى في مرضه… فترة طويلة من العناد والرفض، وهو يواجه الألم والمرض بسبب وجود نقطة دم متجمدة في دماغه، لكنه اضطر لإجراء عملية جراحية في دماغه استغرقت 7 ساعات.
أكثر من عشرين عاما وهو في السجون الإسرائيلية يدرس المحتل وطريقة تفكيره… تعلم وأتقن اللغة العبرية في السجن…
ترجم كتاب “الشاباك بين الأشلاء”، وكتاب “الأحزاب الإسرائيلية عام 1992″، و”حماس: التجربة والخطأ”، وهو كتاب يتناول تجربة “حماس” وتطورها على مر الزمن.
وألّف كتاب “المجد”، وكتب رواية أدبية بعنوان “شوك القرنفل”، التي تحكي قصة النضال…
نقلت “فايننشيال تايمز” عن ميكا كوبي، الذي استجوب السنوار في جهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك)، قوله: “لقد قرأ كتباً عن شخصيات إسرائيلية، مثل فلاديمير جابوتنسكي، ومناحيم بيجن، وإسحاق رابين”، مضيفاً: “لقد قام بدراستنا من الأسفل إلى الأعلى”.
وصفه تقرير استخباراتي إسرائيلي بأنه كان قاسيا وموثوقا ومؤثرا ومقبولا من قبل أصدقائه، وأنه يتمتع بقدرات غير عادية على التحمل والمكر والتلاعب، ويحتفظ بالأسرار ويخفيها حتى عن زملائه في السجن.
ووصفه المتحدث السابق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي ريتشارد هيشت، بأنه “ميت يمشي على الأرض” في إشارة إلى أن الاحتلال يطارده ويتتبعه لقتله.
أطلق سراح يحيى السنوار عام 2011، وكان واحدا من بين أكثر من ألف أسير حرروا مقابل أحد جنود الاحتلال “جلعاد شاليط” ضمن صفقة “وفاء الأحرار”.
بعد الخروج من السجن انتخب السنوار عضوا في المكتب السياسي لحركة حماس خلال الانتخابات الداخلية للحركة.
كان يرفض عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، ويعتبرها «هدية مسمومة». بسبب اشتراطهم على حماس التخلّي عن سلاحها.
أطلق «مسيرات العودة» التي أربكت واستنزفت الجيش والأمن والاقتصاد في مستوطنات الغلاف.
لم يرَ ذلك كافيا، فأطلق عملية “سيف القدس” عام 2021.
أصبح يحيى السنوار الشخص الأكثر نفوذا في حماس…
أنذر الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي استباحت المسجد الأقصى وحاولت تهويده، فأطلق هو والقائد العام لكتائب القسام محمد الضيف معركة (طوفان الأقصى) وعندما أدركوا أن هجوم 7 أكتوبر من تدبيره عدّلوا تصنيف السنوار إلى (المطلوب رقم واحد) لإسرائيل عوضا عن محمد الضيف.
وأنشأت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ووكالة الاستخبارات الأميركية وحدة كلفت بمهمة واحدة تتمثل في العثور على السنوار.
لكن استخباراتهم، وبعد أشهر طويلة لم يصلوا إليه، بل هو من جاء إليهم مشتبكا من المسافة صفر… تمكن من تضليلهم عاما كاملا، وهم يظنون أنه يحتمي بأسراهم المختطفين أو بالمدنيين، أو في باطن الأنفاق… لم يصلوا إليه…. لا بالرصد ولا بالاختراق… وصل إليهم في موقع قتالي متقدم… استشهد وهو يواصل القتال والتحدي… رحل السنوار وهو يقاوم… مات وهو يحارب… مات مرتدياً بزته العسكرية، وفي يده سلاحه… استقبل الرصاص مقبلا غير مدبر… روّى أرض تل السلطان في رفح بدمه… وكان أول قائد فصيل فلسطيني يموت في أرض المعركة مشتبكا من مسافة صفر.
حقق أمنيته بتحدّيهم حين قال يوما: إنني أفضل الموت بصاروخ إسرائيلي على أن أموت على فراشي أو بسكتة قلبية.
أصبح أسطورة عالمية… كتب ناشط ياباني تغريدة: “لقد قاتل السنوار بجسارة مثل محارب الساموراي للدفاع عن غزة التي تشبه هيروشيما”.
تـُقلّب ريح الخريف ألبوم ذكريات السنوار في لقطة وهو خارج من زنزانته مقيداً وجبينه يقطر دما وهو يدندن:
إن عشت فعِش حراً
أو مت كالأشجار وقوفاً
وقوفا كالأشجار….
نقلاً عن موقع قدس برس:
وموقع الجزيرة نت: