خاص هيئة علماء فلسطين
4/12/2025
د. إسراء عطا خليل
المقدمة:
إن معركة “طوفان الأقصى” لم تكن مجرد اشتباك عسكري عابر، بل كانت زلزالاً فكرياً واستراتيجياً كشف للعالم عن منظومة قيمية ومعنوية تُعرف بـ “الحصانة المنيعة”
تجاوزت التحصينات المادية تُعرف بـ “الحصانة المنيعة” ، لتشمل الجانب العقدي، والنفسي، والتكتيكي للمقاتلين في الميادين وعلى الثغور، مُشكّلةً درعاً حقيقياً ضد منطق الهزيمة.
لقد أثبتت هذه المعركة أن قوة الإرادة المستمدة من التربية العميقة على جوهر الدين والسنة النبوية قادرة على استنهاض روح القوة والصمود التي عُرف بها جيل الصحابة، ليعود هذا المنهج في زماننا المعاصر درعاً منيعاً لا يُخترق.
تتجلى قيمة هذه الحصانة في تحويلها لـ ثلاثة أبعاد أساسية إلى قوة استراتيجية مستمدة من الحصانة المنهجية ضد الانهيار الروحي، والحصانة السياسية ضد المساومة والتنازل، والحصانة العملية ضد تجفيف القدرات.
إن دراسة هذه الحصانات المتعددة تقتضي ذكر أسبابها الجوهرية المتمثلة في : التربية العقدية، الثبات على الجهاد، وتضحية القادة)، وأنواعها المتعددة (الإيمانية، والمعنوية، والتكتيكية، والفكرية ، وآثارها الحاسمة على مسار الصراع.
أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى تحليل كيف تحولت إرادة المقاومة إلى قوة استراتيجية عبر تحديد العوامل العقدية والمنهجية التي جعلت المقاومة حصناً منيعاً، و إظهار كيف ضمن استشهاد القادة استدامة الصراع وعدم انهيار المقاومة ، مع بيان كيفية نجاح هذه الحصانة في إعادة مركزية القضية الفلسطينية وإسقاط مشاريع التصفية والتطبيع إقليمياً وعالمياً .
أهمية البحث:
تكمن أهمية هذا التحليل في أنه يقدّم نموذجاً عملياً معاصراً لإعادة قراءة الصراع الفسلطيني المقاوم والعدو الغاشم .
يؤكد البحث أن قوة الإيمان والامتثال للقرآن والسنة النبوية هي الدرع الحقيقي الذي يُحصِّن الأمة ويُفشل أعتى التحديات، وأن القوة ليست في التكنولوجيا وحدها بل في جودة الإنسان المقاوم.
يثبت أن الضغط الأقصى ارتدَّ ليصبح محفزاً، حيث حوّل وعي الشعب من مرحلة المطالبة بالنجاة إلى مرحلة المطالبة بالحق الكامل، مانحاً المقاومة حصانة لا يمكن اختراقها في ساحات المفاوضات.
*******
المبحث الأول: أسباب الحصانة المنيعة للمقاومة.
هذه الحصانة ليست وليدة صدفة، بل هي نتاج مباشر لتربية عميقة وإعداد طويل
المدى، أعاد إلى زماننا المعاصر روح الإرادة والقوة التي عُرف بها جيل الصحابة.
السبب الأول: التربية على جوهر العقيدة السليمة .
الجذر الأساسي للحصانة هو التربية العقدية السليمة، التي جعلت القتال
يقيناً بوعد الله، وليس مجرد مغامرة، فالنفس التي تكتسب حصانة من الخوف عندما
تعقد صفقة البيع والشراء مع الله، كما نصت الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ…﴾.
وفي هذا اليقين و هو الذي منحهم حصانة نفسية ضد آلة القتل والتدمير، فحوّل المحنة
إلى منحة، وأثبت أن الإرادة القائمة على الإيمان أقوى من الترسانة المادية.
يتجسد هذا الثبات العقدي في صمود الأفراد تحت الأنقاض، وتمسكهم بالخيار
الجهادي والقتال والثبات على الثغور ، وهو ترجمة معاصرة لـ “أَحَدٌ أَحَدٌ” التي قالها بلال بن رباح رضي الله عنه تحت سياط التعذيب.
فالمقاوم في غزة يواجه آلة الدمار بثبات بلال، مؤكداً أن الثبات العقدي أغلى من سلامة الجسد.
السبب الثاني: الثبات على منهج الجهاد .
تمسكت الثلة المقاومة بـخيار التحرير الشامل كهدف عقدي وديني بالجهاد في سبيل الله ، رافضةً كل حلول الركون للظالمين التي حذّر منها القرآن: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾. هذه الحصانة المنهجية هي امتداد لرفض التنازل
الذي جسّده الصحابة الكرام؛ فموقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه برفض محو
كلمة “رسول الله” في صلح الحديبية يمثل الروح المبدئية التي ترفض أي
تفريط يمس الثابت العقدي. كما أن موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نقض
الهدن المؤقتة يؤكد رفض الركون لحلول تجمد الصراع دون حسمه، رغم التكلفة الباهظة، والذي يعتبر أعلى مستويات الحصانة المنيعة ضد الاستسلام لموازين القوى المادية، والذي يضمن ديمومة الفعل المقاوم الذي اعتمد المقاومون فيها على التحصين المنيع في الاعداد والتهيئة الميدانية والجهادية والفكرية والتضحيات ،
أولا: حصانة المبادأة وكسر القواعد (فقه الغزو لا الدفاع).
تجلت الحصانة في قدرة المقاومة على الخروج من مربع رد الفعل إلى مربع
المبادأة، وهذا هو جوهر العمل الجهادي وفق المنهج النبوي، الذي يرفض أن يُفرض
عليه التوقيت والمكان.
وتعتبر معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر لعام 2023 م تطبيقاً
عملياً لمبدأ “الغزو لا الدفاع” كعملية هجومية شاملة في أدبيات القتال، بمعنى أن المقاومة هي التي تحدد متى وأين تبدأ المعركة، وليس انتظار هجوم العدو، وهذا يمثل حصانة تكتيكية وسياسية كسرت قواعد الاشتباك التي استمرت لعقود، وأسقطت نظرية الردع لدى العدو بشكل كامل. هذا الفعل المباغت أثبت أن الجهة التي تتمسك بالجهاد
تستطيع أن تكسر حاجز الخوف وتفرض إرادتها على الجبهة الداخلية للعدو، وهذا يذكرنا بـ غزوة بدر الكبرى، حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون للقاء القافلة، ثم تحولت إلى مواجهة مفتوحة، لكن المبادأة كانت لهم في تحديد مسار الأحداث، مما منحهم حصانة معنوية مبكرة بالانتصار.
ثانيا : حصانة المقاومة الفكرية .
فالتمسك بالجهاد كـ “طريق وحيد للتحرير” يمنح المقاومة حصانة من محاولات “التدجين السياسي” التي تسعى لتحويلها إلى مجرد أداة تفاوضية أو جماعة سياسية عادة ، وهذا يعكس رفض الركون إلى الظالمين، واليقين بأن قوة السلاح هي الضمانة الوحيدة
لعدم التفريط في الحقوق، و إن الجهاد هو الحصن الذي يحمي المشروع السياسي
للمقاومة، و الإصرار على الاحتفاظ بالسلاح وعدم الحديث عن تسليمه هو دليل على
هذه الحصانة، وهذا الموقف يرسخ في وعي المجتمع أن الحل السياسي لا يمكن أن يأتي
إلا من بوابة القوة والردع، وليس من بوابة الضعف والاستجداء.
ويتجلى هذا في صرامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حرب المرتدين، وتمسكه بالقتال رغم عِظم التحدي والخطر الداخلي، مؤكداً أن الجهاد واستمراره هو حصانة الأمة من الانهيار العقدي والسياسي، لو تنازل أبو بكر عن هذا الركن، لانهارت الدولة من الداخل.
ثالثا: حصانة المقاومة بالاكتفاء الذاتي .
يُعد التمسك بالجهاد في ظل الحصار دليلاً على حصانة القدرة على الاكتفاء
الذاتي من مصادر التسليح والإعداد.
وهذا تطبيق للمنطق القرآني في الإعداد: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ﴾.إن الاستطاعة
هنا لا ترتبط دائماً بوفرة الموارد الخارجية، بل بالقدرة على تصنيع القوة
محلياً، و قدرة المقاومة على تطوير ترسانتها الصاروخية ومقاتليها
داخل غزة رغم الحصار الخانق، هو أقوى دليل على الحصانة المنيعة ضد سياسة
التجفيف والتجريد من السلاح، لتكون هذه الحصانة التكنولوجية والإنتاجية حامية من الاستسلام، وهذا يذكرنا بحرص النبي صلى الله عليه وسلم على الإعداد والتدريب وتجهيز السرايا بشكل متواصل، واعتماده على الجهود الذاتية لجمع السلاح، كما في جمع الخيل والموارد رغم ضيق ذات اليد في المدينة.
على اعتبار أن التمسك بالجهاد يمنح المقاومة الحصانة المنهجية ضد الانهيار الروحي واليأس. فهو يرسخ في الوعي أن القتال عبادة ووعد إلهي بالانتصار أو الشهادة، وليس مجرد حسابات للقوة المادية،و هذه النظرة تحوّل الخسائر إلى أجر والتضحية إلى نصر، وبالتالي يصبح الانكسار النفسي مستحيلاً، وتدوم القدرة على مواصلة الصمود مهما بلغت الضغوط، والحصانة سياسية للمقاومة في المفاوضات. إذ أنه يفرض على العدو والمجتمع الدولي التعامل مع المقاومة كقوة ضغط لا يمكن تجاهلها أو تصفيتها. التمسك بالسلاح يضمن أن أي حل سياسي يجب أن يأتي من بوابة القوة وليس من بوابة الضعف، مما يمنع المقاومة من التنازل عن الثوابت الوطنية والقضية الرئيسية مقابل مكاسب جزئية أو وقتية، والتمسك بالجهاد في ظل الحصار هو برهان على حصانة عملية ضد محاولات تجفيف المقاومة من السلاح والقدرة. فهو يجبر المقاومة على تطوير قدراتها الذاتية والتصنيع المحلي، وهذا هو تطبيق عملي للمنطق القرآني في الإعداد:﴿وَأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم﴾. وتعتبر هذه الحصانة التكنولوجية والإنتاجية تحمي الإرادة من أن تُكسر عبر قطع الإمدادات الخارجية.
السبب الثالث: تضحية القادة حصانة من التخاذل والتهم .
إن استشهاد القادة والمفكرين في صفوف المقاومة هو من أهم أسباب الحصانة. هذا
يدل على أن القادة ليسوا بمعزل عن ساحة القتال والتضحية، مما يمنح المنهج حصانة
من التهمة بالتخاذل أو الغدر
فعندما يكون القائد الذي يطلب من جنوده التضحية هو أول من يضحي بنفسه أو
بأفراد عائلته، فإنه يسحب البساط من تحت أي اتهام بالتخاذل أو الغدر. القائد يثبت
عملياً أن ما يطالب به جنوده والشعب هو أول من يدفعه ثمناً، وهذا يمنح المنهج شرعية
مطلقة في عيون الأتباع والحاضنة الشعبية.
ويعتبر استشهادهم هو التجسيد الأسمى لـ حصانة العقيدة من إغراءات
الدُّنيا والمنصب، ويؤكد أن الهدف (التحرير والشهادة).
ليستشهد في معركة طوفان الأقصى عدد من قادة الصف الأول والثاني، سواء
السياسيين أو العسكريين، وهذا زاد من حصانة المنهج بشكل غير مسبوق منهم :
الشهيد يحيى السنوار قائد حركة حماس في غزة و قد : استشهده في الميدان (حسب ما أُعلن)ـ
وهذا رسخ أن القائد الأبرز كان يقاتل في “قلب الخطر” وليس في مأمن، و هذا ضاعف من ثقة
المقاتلين والشعب بأن القيادة تقاتل معهم لا من بعيد، مؤكداً أن المنصب لم يحل
بينه وبين التضحية.
الشهيد أسامة المزيني رئيس مجلس شورى حماس في قطاع غزة: استشهد بقصف جوي وهذا يؤكد أن القيادات الفكرية والتشريعية للحركة
هي أيضاً في دائرة الاستهداف المباشر، وهذا يثبت أن قرار المقاومة عقدي شامل
لكل مستويات القيادة.
الشهيد أيمن نوفل (قائد لواء لوسطى – عسكري) و استشهاده
أثناء القتال يعزز فكرة أن القيادات قابلة للاستبدال الفوري لأن المنهج
ثابت، ولم يؤدِ إلى انهيار القيادة الميدانية، بل عزز فكرة أن المقاومة هي مؤسسة
فكرية وجهادية لا تعتمد على شخص واحد.
الشهيد صالح العاروري (نائب رئيس المكتب السياسي)، وهو خارج
قطاع غزة، ليؤكد أن قيادة المقاومة لم تختر ملاذاً آمناً أو موقعاً متفرجاً. هذا يثبت أن قرار القتال قرار عقدي شامل متجاوز للحدود الجغرافية، وأنهم رفضوا التنازل عن مبادئهم
رغم توفر خيارات الحياة الآمنة بعيداً عن القصف المباشر. هذا الموقف يمنح المقاومةحصانة سياسية عميقة أمام أي ضغوط إقليمية للحياد أو الانكفاء.
و يُعد استشهاد الشيخ إسماعيل هنية (رئيس المكتب السياسي)، رغم وجوده
خارج غزة، دليلاً قاطعاً على أن التضحية لا تقتصر على الميدان العسكري الضيق، بل
تشمل رأس الهرم السياسي وصانع القرارـ وهذا يرسخ أن لا خطوط حمراء أمام التضحية وأن القيادة السياسية هي شريك كامل في الدم والقرار. وهذا يمنع أي
طرف داخلي أو خارجي من اتهام القيادة السياسية بالبحث عن سلامة شخصية، ويزيد من حصانة المقاومة ضد الضغوط الخارجية التي تسعى لعزل الجناح العسكري عن السياسي.
بصفته رمزًا للمؤسسة السياسية، كما يؤكد استشهاده أن المشروع أكبر من الأشخاص،
وأن المؤسسة قادرة على استبدال قادتها والمسير نحو الهدف دون توقف، مما يعزز حصانة
المقاومة التنظيمية .
واستشهاد القائد محمد الضيف يثبت أنا لقيادة الاستراتيجية كانت تقود من الميدان وتعيش المخاطرة، وهذا يمنح الفكرة المنهجية لـ “طوفان الأقصى” حصانة أبدية من التشكيك في صدقها وجرأتها. لم يعد مجرد “قائد أسطوري مختبئ”، بل قائد شهيد، فتضحية القائد الذي ظل لعقود يمثل لغزاً للعدو، تؤكد أن قيمة التضحية أعلى من قيمة البقاء، وأن الهدف
الأسمى (التحرير) تطلب منه أن يختم حياته بالشهادة. هذا يعزز حصانة الإرادة
ويؤكد أن الإعداد السري لم يكن هدفاً في ذاته بل وسيلة للتضحية الكبرى.
لقد أثبتت هذه الظاهرة أن قوة الإرادة المستمدة من تربية عميقة على جوهر
الدين والسنة النبوية، قادرة على استنهاض روح القوة والصمود التي عُرف بها جيل
الصحابة، ليعود هذا المنهج في زماننا المعاصر درعاً منيعاً لا يُخترق.
*******
المبحث الثاني : أنواع الحصانة المنيعة .
تجلت الحصانة المنيعة في “طوفان الأقصى” في أربعة أبعاد رئيسية
متكاملة، تشكل درعاً لا يُخترق
1– الحصانة الإيمانية
يُعدّ الثبات الأسطوري والإقدام بلا إدبار في القتال النموذج الأبرز
لهذه الحصانة. هذا ليس مجرد شجاعة فطرية، بل هو حصانة إيمانية راسخة ضد الانهزام الروحي. لقد تجسد في المقاومين كمالمنزلة الرباط والإخلاص المستمدة من الهدي النبوي الشريف، مما جعلهم ينظرون
إلى القتال على أنه يقين بالوعد، وليس مجرد مغامرة. تتمثل جذور هذه الحصانة في
الإقدام والثبات على اليقين، المستمدين مباشرة من فقه القرآن والسنة للقتال.
ويُشعرهم أنهم امتداد لـ “الطائفة المنصورة” التي لا يضرها من خالفها، والتي وصفها
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين
ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء. قيل: يا رسول
الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. (رواه أحمد). فهذا اليقين هو الميزان الذي لا
ينكسر.
2- الحصانة المعنوية.
يتجذر الأساس لهذه الحصانة المعنوية في الحديث النبوي الشريف الذي
يعظم أمر المؤمن: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير… إن أصابته ضراء
صبر فكان خيراً له.” (رواه مسلم). في ضوء هذا الحديث، فإن التدمير
والابتلاء لا يُفقد الهدف ولا يُكسر الإرادة، بل يُحوَّل إلى خير أجر وثبات.
وتتكامل هذه الحصانة بالتمسك بمبدأ العزة المستمد من الدين، كما جسده قول أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنا قوم أعزنا الله بالإسلام،
فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.” ليرتبط هذا القول بعزة المؤمن وتمسكه
بثباته وسلاحه، وهو سر حصانة المقاومة من الابتزاز والتنازل. وفي هذا السياق، فإن ما
يتنادى به قادة المقاومة وجنودها من إعادة قراءة مفهوم الرباط وحب
الاستشهاد والاستبسال في القتال كـ واجب عقدي، يمنحهم حصانة معنوية دائمة
من التخاذل وانهيار الروح القتالية.
3- حصانة الفكرة الاستراتيجية .
حصانة الفكرة الاستراتيجية هي الدرع الذي يحمي
المقاومة في ساحة المفاوضات والاحتواء السياسي، وهي جوهر الرؤية
العقيدية التي لا تسمح بتحويل القتال إلى مجرد أداة للمكاسب الآنية.
تتجلى هذه الحصانة في القدرة على الثبات
التام على الثوابت وعدم تحويلها إلى أوراق قابلة للمساومة. من خلال الإصرار على
أن سلاح المقاومة ليس إرهاباً بل هو حق مشروع ومقدس
للدفاع عن النفس والأرض. هذا الموقف يمنع شرعنة أي ضغط خارجي يهدف إلى نزع السلاح
أو تجريمه.
والتأكيد المستمر أن الأقصى
ليس محل تفاوض”: بل هو عقيدة ثابتة لا تخضع للمقايضة أو التقسيم الزماني والمكاني.
والإصرار على إخراج كامل الاسرى الفلسطينين من سجون المحتل وهذا الثبات هو تطبيق لمبدأ عدم المساومة على
الحق مهما كان الثمن، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (الكافرون: 1-2). هي إعلان
فصل تام بين الحق والباطل، يمنح حصانة منهجية ضد التنازل.
وهذه الحصانة ليست سلبية مجرد رفض، بل
هي قوة فاعلة تُستخدم لفرض الرؤية المقابلة في المفاوضات لترسخ أن شروط
العزة لا تتغير بتغير ضغوط اللحظة الدولية. أي أن الضغط العسكري أو الاقتصادي الشديد لا يغير من المطلب النهائي للمقاومة، هذه الحصانة تحوّل وعي المقاومة من مرحلة “المطالبة بالنجاة بوقف القتال بأي ثمن إلى مرحلة “المطالبة بالحق الكامل” ووقف العدوان والانسحاب ورفع الحصار
وبرزت هذه الحصانة عندما رفض النبي صلى الله عليه وسلم، ورفض الصحابة، حذف عبارة “رسول الله” من نص الاتفاق، رغم كل الضغوط. و هذا الرفض لم يكن مجرد خلاف على لقب، بل كان ثباتاً على الثابت العقدي والمنهجي في أحلك اللحظات.
وإن موقف الصحابي خُبيب بن عدي رضي الله عنه، الذي رفض أن يكون آمناً مقابل أن يُصاب النبي بشوكة، يمثل حصانة فكرية مطلقة ترفض المساومة على رمزية القيادة والرسالة مهما كان الثمن الشخصي، والمقاومة اليوم تتمسك بحصانة الفكرة، رافضة أي تنازل عن ثوابت مثل حق العودة أو الانسحاب الكامل أو حماية الأسرى.
هذا الموقف يجسد إحياء لروح الحديبية التي أكدت أن الثبات على المبدأ هو في حد ذاته نصر.
4- الحصانة التكتيكية والاستخباراتية .
على المستوى الميداني، ظهرت الحصانة التكتيكية والاستخباراتية بوضوح عبر السرية المطلقة التي سبقت المعركة، وهي تطبيق بارع للمبدأ النبوي القائل: “الحرب خدعة”. هذا الانضباط الصارم يجسد الإعداد المأمور به في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ﴾، مكَّن من مباغتة العدو وإسقاط وهم تفوقه الاستخباراتي. وقد تجلّت هذه
الحصانة في الشراسة القتالية والالتحام المتقن الذي حوّل التفوق الجوي إلى تحدٍّ
لا قيمة له.
وقد ظهر هذا في استعدادات النبي صلى الله عليه وسلم لـ فتح مكة، حيث أمر
الصحابة بكتمان الأمر والوجهة، مما وفر حصانة استراتيجية حمت الجيش من انكشاف
الهدف. إن السرية المطلقة التي مكنت المقاومة من الإعداد لسنوات طويلة دون تسريب،
هي ترجمة معاصرة لهذا المنهج النبوي، وقد أدت إلى إبطال أهم ميزة للعدو.
ُضاف إلى ذلك، الشراسة القتالية والالتحام الذكي الذي أبدعه المقاتلون في
غزة، والقتال من مسافة صفر (الالتحام)، مما سحب ميزة التفوق الجوي من العدو. وهذا
يتجسد في قصة الزبير بن العوام وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، اللذين عُرفا
بالشجاعة والإقدام المطلق. وتجلت هذه الحصانة في الاعتماد على شبكة الأنفاق
المتقنة، والتي حوّلت التقدّم البري للعدو إلى مصيدة معقدة، مما منح المقاومة
حصانة تكتيكية داخل محيطها الجغرافي.
5- حصانة البنيان الداخلي .
لقد نجحت المقاومة في ترسيخ حصانة الوحدة العملية كدرع منهجي إضافي
ضد الاختراق والتفكيك. تجلّى ذلك بوضوح في اجتماع كل الفصائل الفلسطينية
المقاومة على واحدة الكلمة ووحدة الصف في قتال العدو المحتل والإثخان به والتي
تمثلت بأذرع المقاومة المسلحة التابعة لكل الأطر التنظيمية الميدانية . والالتحام
على طاولة المفاوضات ووحدة الكلمة أمام العدو المحتل .
و هذا التنسيق المحكم هو استجابة مباشرة للأمر الإلهي بالاعتصام ونبذ الفرقة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، وهذه الوحدة تُعد تحصيناً استراتيجياً يذكّرنا بـ صلابة صف الصحابة الكرام في المواقف الحاسمة، ومثال ذلك وحدة الكلمة في يوم الأحزاب، رغم شدة الجوع والبرد. إن وحدة الصف في ميدان طوفان الأقصى هي أبلغ دليل على سلامة المنهج، وتؤكد أن قواها قد حصّنت بنيانها من الوهن الذي يسعى العدو لزرعه.
6– حصانة الجبهة الداخلية .
تُعد حصانة الجبهة الداخلية للمقاومة، وخاصة فيما يتعلق بـ سرية أسرى العدو، دليلاً فريداً على مستوى عالٍ من الضبط العقدي والتنظيمي. يدل الكتمان المطلق حول ملف الأسرى على أن القيمة المادية (الإغراء بالمال) للكشف عن الأسرار قد تم تحييدها بالكامل، مما يرسخ مفهوم الحصانة من الفتنة الدنيوية. كما أن فشل أعتى الأجهزة
الاستخباراتية في الحصول على معلومة جوهرية، يدل على أن المقاومة نجحت في بناء جدار
صمت محصن يعتمد على الثقة المتبادلة والانضباط الأمني العقدي الذي يرى في
إفشاء السر خيانة عظمى. لذلك فإن ملف الأسرى يمثل قمة الحصانة الأمنية والفكرية.
وتُعدّ حصانة المجتمع الفلسطيني ضد الاختراق الداخلي، وتحديداً في
مواجهة الميليشيات المدعومة من العدو التي حاولت بث الفساد والفتنة، دليلاً
قوياً على وعي جمعي مُحصّن. يدل رفض المجتمع لهذه الميليشيات على أن المعركة ضد الاحتلال تُرى كمعركة قيمية وأخلاقية أولاً. هذا الوعي يمثل حصانة فكرية واجتماعية تتجاوز الإغراءات، إذ يمتلك المجتمع، رغم الحصار والفقر، بوصلة أخلاقية حادة ترفض تداول أي عملة فساد أو خيانة. إن دعم المجتمع للمقاومة في التخلص من هذه العناصر المفسدة هو دليل على أن الوحدة الوطنية للمقاومة لا تتجزأ. ونجاح المقاومة في التعامل مع الفساد الداخلي يُثبت أنها قدمت نموذجاً للحكم والإدارة يُحظى بثقة الجمهور، وهذا يمنحها حصانة شرعية واجتماعية قوية ناتجة عن العدل والنزاهة الداخلية.
7– حصانة المقاومة الشعبية .
لقد تميّزت المقاومة وحاضنتها الشعبية بامتلاك حصانة نفسية ومعنوية عجيبة
نابعة من التربية على الصبر الجميل، و هذا اليقين العميق حوّل الضراء والبلاء
إلى مصدر للأجر والثبات، فكان صمودهم الأسطوري أمام القصف المدمّر تطبيقاً عملياً
لليقين بـ ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ فإن سياسات العدو القائمة على النزوح القسري، والتشرد،
والتجويع المتعمد، قد ارتدت بشكل عجيب لتصبح محفزاً إضافياً للحصانة المجتمعية، فالتجويع لم يكسر الإرادة، بل صقلها وجعلها أكثر حصانة ضد الابتزاز السياسي. كما تحوّل النزوح إلى ظاهرة تأكيد للهوية المشتركة والالتحام الاجتماعي، ليصبح الكل شاهداً على جرائم العدو، وبالتالي مُحصَّناً ضد القبول بأي تسوية هزيلة، وتزامنت هذه القوة النفسية مع حصانة استراتيجية حكيمة، تجسدت في قدرة المقاومة على الثبات على التوقيت والالتزام بالمنهج القرآني الذي يأمر بـ ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾.
إن هذا الصبر الاستراتيجي يعكس رؤية بعيدة المدى تتجاوز ضغوط الألم الآني وتُدرك بوضوح المآلات الكبرى للعملية، ويراهن العدو على أن اغتيال الجماعي لعائلات المقاومين ورموز المجتمع الوطني من الأطباء والمهندسين والأساتذة والعلماء وأحاب القلم والإبداع ، ومحاولة
اجتثات القوة والصمود بالتنكيل بقتل الأطفال وتعذيب الأسرى سيؤدي إلى انكسار معنوي وانهيار تنظيمي. لكن هذا يؤدي إلى العكس؛ إنه يمنح الشعب والمقاتلين حصانة ضد الانكسار المعنوي، ويُرسخ مبدأ أن هذا كله قابلة للاستبدال الفوري والوطن باق .
ويؤكد هذا على أن الحصانة التنظيمية للمقاومة عالية جداً، وأنها لا تعتمد على أشخاص معينين أو تتأثر بفقدان أو موت العديد هنا تبرز بركة الأرض الفلسطينية العجيبة التي جعلت مداد هذه الفئة القليلة بهذا التأثير المبارك ، وبهذا فإن المؤسسات الفكرية والجهادية قادرة على استدامة الصراع.
8– حصانة الصمود الشعبي.
إن سياسات العدو القائمة على النزوح القسري، والتشرد، والتجويع المتعمد،
التي تُستخدم كأدوات لكسر الإرادة، قد ارتدت بشكل عجيب لتصبح محفزاً إضافياً
للحصانة المجتمعية في غزة. هذا التحول يعكس قوة الإرادة المعنوية التي تتحدى
المنطق المادي.
تهدف سياسة العدو إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وإجبار الحاضنة الشعبية
على التخلي عن المقاومة. لكن النزوح تحوّل إلى ظاهرة تأكيد للهوية المشتركة والالتحام الاجتماعي. فقد أصبحت أماكن النزوح مساحات لـ التكافل الفوري والمؤاخاة العملية، مما عزز وحدة المصير وحصَّن الوعي الجمعي من الوقوع في فخ الأنانية واليأس. ومع التجويع، الذي أصبح دليلاً إضافياً على عدالة القضية ووحشية المحتل، أدى الحرمان الشديد إلى تأصيل مفهوم الصبر والاحتساب، مستندين إلى الحصانة العقدية. هذا التجويع لم يكسر الإرادة، بل صقلها وجعلها أكثر حصانة ضد الابتزاز السياسي؛ فالمجتمع الذي وصل إلى حدوده القصوى في التضحية، لن يقبل بأقل من النصر أو التحرير.
*******
المبحث الثالث: آثار الحصانة المنيعة على المقاومة .
لم تكن الحصانة المنيعة غاية بحد ذاتها، بل كانت قوة دافعة ووسيلة فعالة
لإنتاج نتائج استراتيجية كبرى قلبت موازين الصراع على مستويات الإرادة والسياسة
والاجتماع، محولةً كل ضغوط العدو إلى عامل إيجابي يصب في صالح المقاومة.
الأثر الأول: إبطال مفعول الضغط القصوى .
إن سياسات العدو القائمة على النزوح والتشرد والتجويع المتعمد، ارتدت
لتصبح محفزاً إضافياً للحصانة المجتمعية. تحوّل النزوح إلى ظاهرة تأكيد
للهوية المشتركة والتكافل العملي، مما عزز وحدة المصير وحصَّن الوعي من
اليأس. فبدلاً من أن تتحول أماكن النزوح إلى بؤر للفوضى واليأس، أصبحت مساحات
للمؤاخاة العملية ووحدة المصير، وهذا الالتفاف يجسد المنهج النبوي في بناء
المجتمع على أسس “المؤاخاة” التي تمت بين المهاجرين والأنصار، مؤكداً أن الاجتماع على المصيبة هو حصانة ضد التشرذم والانفراد، و أدى التجويع المتعمد إلى تأصيل مفهوم الصبر والاحتساب، صاقلاً الإرادة وجاعلاً المجتمع أكثر حصانة ضد الابتزاز السياسي. إن المجتمع الذي وصل إلى أقصى حدود التضحية والتحمل، لن يقبل بأي تسوية تُنقص من حقه.
وهذا الثبات يجسد الثناء القرآني على المؤمنين في قوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146)
وهذا يعني أن الضغط الشديد قد حوّل الوعي من مرحلة المطالبة بالنجاة إلى مرحلة المطالبة بالحق
الكامل.
الأثر الثاني: استدامة الصراع وإثبات ديمومة المنهج.
لم يقتصر أثر الحصانة على صمود الإرادة، بل امتد ليثبت قدرة المنهج الجهادي على الاستدامة، مُسقطاً رهان العدو على “استنزاف القيادات”، وأكدت الحصانة العقدية والتنظيمية أن القيادات قابلة للاستبدال الفوري لأن المنهج ثابت، مما منح الشعب والمقاتلين حصانة ضد الانكسار المعنوي، حيث أصبح استشهاد القائد دليلاً على صدق الطريق لا على فشله.
وقد عزز هذا اليقين بأن المقاومة هي مؤسسة فكرية وجهادية لا تعتمد على شخص واحد، مما يضمن ديمومة الصراع.
يجسد هذا الموقف ما حدث بعد استشهاد القائد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة، حيث تم انتقال القيادة إلى عبد الله بن رواحة ثم إلى خالد بن الوليد بسلاسة، مؤكدين أن قيادة الجيش مبدأ وليست شخصاً، كما يعتبر فقه الرباط الطويل المدى يعكس رؤية بعيدة المدى تتجاوز الألم الآني، وتُدرك بوضوح المآلات الكبرى للعملية، وهي استدامة المقاومة حتى تحقيق التحرير، هذا الثبات ليس مجرد صمود لحظي، بل هو فقه
عميق للإعداد والمصابرة، ليكون هذا الرباط هو التزام بالمنهج القرآني
الذي يأمر بـ المصابرة والرباط على الهدف، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).
و تطبيق هذا الفقه في “طوفان الأقصى” أثبت أن الزمن يعمل لصالح المنهج الثابت، وأن المقاومة لا تتعجل النتائج، مما منحها حصانة ضد اليأس وطول الأمد الذي يراهن عليه العدو.
الأثر الثالث: إعادة مركزية القضية وإسقاط مشاريع التصفية.
كان الأثر الأهم لمنظومة الحصانات المنيعة هو تجاوز البعد
المحلي ليصبح أثراً حضارياً واستراتيجياً واسع النطاق، وهو إعادة تموضع القضية
الفلسطينية في صدارة الوعي العالمي والإسلامي.
لقد كشفت “طوفان الأقصى” أن الجهاد هو القوة الوحيدة
القادرة على فك الحصار عن الوعي العربي والإسلامي. هذا أثبت أن القدرة على التضحية
هي التي تمنح المقاومة حصانة حضارية تُجبر العالم على احترام إرادتها
الذي أدي إلى إسقاط المشاريع الإقليمية والدولية للتطبيع والتصفية التي كانت تسعى لعزل المقاومة وتذويب أحقيتها التاريخية.، و هذا الموقف يجسد
مفهوم الجهاد كـ “قوة دافعة” لحماية الأمة ومقدساتها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (البقرة: 251).
المقاومة مارست هذا “الدفع” بقوة الإيمان.
وهذا الإنجاز الحضاري يثبت أن قوة الإيمان والامتثال للسنن النبوية في الثبات والإعداد هي الدرع الحقيقي الذي يُحصِّن الأمة ويُفشل أعتى التحديات العسكرية والسياسية المعاصرة.
القوة ليست في التكنولوجيا وحدها، بل في جودة الإنسان المقاوم ،ذا الصمود يذكّر بتحصين النبي صلى الله عليه
وسلم لأمته بالبشارة عن “الطائفة المنصورة” التي لا يضرها من خالفها، والتي توجد في “بيت المقدس وأكناف بيت المقدس” كما ورد عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) (رواه مسلم:1920 )، وفي رواية أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعدوِّهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لَأْوَاء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) (رواه احمد في مسنده : 22320)، و هذا الحديث يعطي حصانة يقينية بأن هذه لأرض لن تخلو من مجاهدين صادقين، مما يبعث الأمل في الأمة بأسرها، فقد أثبتت الحصانة المنيعة أن المعركة ليست محلية، بل هي معركة وعي ومصير، نجحت المقاومة فيها في تحويل تضحياتها إلى قضية مركزية لا يمكن تجاوزها أو تجميدها.
الأثر الرابع : التحصين من الرفض العالمي .
لم يقتصر أثر الحصانة المنيعة على المقاومة فحسب، بل امتد ليعزز حصانة الدعم الشعبي والمالي
والإعلامي من قِبل الأمة وشعوب العالم، مُسقطاً محاولات العدو لفرض عزلة تامة.
و الثبات الأسطوري في غزة، بفضل الحصانة العقدية، ألهم الأمة وجعلها تشعر بـ “وحدة المصير”. هذا الشعور تحوّل إلى تدفق هائل للدعم المالي الشعبي والإنساني، مما
منح المقاومة حصانة مالية ضد سياسة التجويع والحصار.
وهذا الدعم يُثبت أن الإرادة الشعبية العربية والإسلامية رافضة لسياسات العزل وتتمسك بخيار المقاومة، ويعتبر هذا الدعم يجسد المبدأ النبوي في “التعاون على البر والتقوى”، ويُحيي قيمة “الجهاد بالمال” التي أمر بها القرآن الكريم، مؤكداً أن الأمة لم تتخلَّ عن واجبها
رغم محاولات الحكومات، حيث نجحت المقاومة في تصدير حصانة الوعي والثبات من غزة إلى عواصم العالم عبر المسيرات، والوقفات والشعارات الرافضة للاحتلال. هذه الحركة
الجماهيرية العالمية وفرت غطاءً إعلامياً وسياسياً مضاداً للرواية الصهيونية،
ومنعت التعتيم الكامل على جرائم العدو، وكسر هذا الجدار من الرفض العالمي يُرسخ حصانة الموقف الدولي الشعبي، ويُجبر الحكومات المترددة على اتخاذ مواقف أكثر توازناً، كما أنه يثبت أن القدس ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية الأمة وأحرار العالم.
هذا يذكرنا بـ قوة الدعوة في مراحلها الأولى، حيث كان الثبات القليل في مكة يصدّر الأمل والإيمان إلى كل من وصلتهم الرسالة، مؤكداً أن قوة الموقف المبدئي تغلب ضخامة الآلة الإعلامية المضادة.
والله ولي التوفيق