خاص هيئة علماء فلسطين
28/5/2025
د. رانية نصر عضو هيئة علماء فلسطين

في هذه الأيام المباركات، أعظم أيام الله، ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه العشر، كما أخبرنا بذلك رسول الله ﷺ، إلا رجلٌ خرج بماله ونفسه في سبيل الله، فلم يرجع من ذلك بشيء، إنها أيام الذّكر والتّكبير، والتّسبيح والتّهليل، والطّاعات والأجر الوفير، قال الله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ الحج: 28، ليذكروا اسم الله؛ لا ليردّدوه بألسنتهم فقط، بل ليملأوا به قلوبهم، ويُطهّروا به نفوسهم، ويُزيّنوا به أيامهم وأعمالهم، فيغدو الذِّكر طبعاً غير مُتَكلّف وسجيةً لا تُستَثقل.
أيام العشر… مضمار للمتسابقين
في هذه الأيام المباركة، تتفتح أبواب السماء، وتتسابق الأرواح في مضمار العشق الإلهي، فتغدو السّجدةُ وطناً، والدعاء ملاذاً، والدموع لغةً لا يفهمها إلا مَن انسكبت لأجله، تهفو القلوب لتتلمّس نسمات القُرب، ونفحات الرّحمة، فيها الصيام عبادة، والقيام قربى، والصدقة مضاعفة، والذِّكر فيها أحبُّ إلى الله من سائر الأعمال، يا ربُّ فها هو عبدك الضعيف جاءك منحنياً يشكو الخطايا، قلبُه منكسرٌ بين يديك، فارفعه بالرحمات، وبلّل روحَه بلفتة من جنابك، ولمّ شعثَه في حضن أمانك، واربط على قلبه ربطاً يليق بعنايتك، وامنحه هدوءاً لا يُشبه إلا سَكَنَ العارفين بك.
من رفع يديه خاشعًا في جوف الليل، ورطّب لسانه بذكر الله، وعلّقَ قلبَه بالمحراب، وسخّر جسده في خدمة العباد، وأحسن ظنّه بربّه أنه يغفر الذنوب جميعاً؛ فذاك هو المؤمن الذي فاز، وإن لم يستلّ سيفًا، ولم يمتطِ فرساً، غير أن سلاحه التقوى، وعدّته الإخلاص، وزاده الصبر، وسهامه الدّعاء، وقوسه النّفير في فعل الخيرات، ذاك الذي إذا نام النّاس قام، وإذا غفلوا ذكر، وإذا شُغِلوا بالدنيا انصرف عنها بقلبه، وجعل روحَه تحوم في ملكوت السموات، يُحدّث ربّه سراً، ويرجوه جهراً، ويذرف دَمعهُ خُفية، وقد أشرق نداء الرّحمة في فؤاده ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر: 53.
وإن كان الذكر حياةً… فغزّة أحيتْ أمة!
في غزة المذبوحة، حيث الركام يُزاحم التّكبير، والدماء من كل صوبٍ تسيل، هناك مَن يذكر الله رغم كل شيء، يُكبّر على الخبز اليابس، وعلى الطحين الفاسد، ويسبّح عند قصف بيته، ويحمد الله وهو يحمل جنازة طفله، فأهل غزة يعيشون “العشر” كلّ أيامهم، بين فقدٍ وصبر، وصلاةٍ ورجاء، وذكرٍ في جوف القهر، وثقةٍ لا تتزحزح أن الله معهم، حتى وإن خذلهم العالم كلّه!
فلنذكُر الله كما يليق بمقام الجلال، نذكره امتنانًا على النعم، ونصرةً للمظلومين، ولنرفع أكفّ الضّراعة بالدعاء في هذه الأيام لغزة، نُصرة لأرواحٍ تُذبح في صمت؛ فالعشر من ذي الحجة موسمٌ لا يتكرّر، وكنزٌ عظيم بين أيدينا، وغزة تُعلّمنا أن من عاش على الذكر… لا يُقهَر ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ البقرة: 152.
هاجر… صبرٌ فوق الرمال
فوق رمضاء الرّمال، حيث لا زرع ولا ماء، وقفت هاجر وحيدة، تحمل وليدها، وقد ودّعها إبراهيم -عليه السلام- بأمر الله، دون وعدٍ بالعودة، بل بإيمانٍ عميق أن الله لا يضيّع أهله، فقصّتها ليست مشهدًا عابرًا في التاريخ، بل رمزٌ خالد للصبر والثقة بالله“آالله أمرك بهذا؟.. إذن لا يُضيعُنا”.
ويجفّ اللبن ويشتدّ بكاء الرضيع، وتسعى الموقِنة بفرج الله سبعًا بين الصفا والمروة، ليس سعياً لبلوغ الماء فحسب؛ بل سعيًا بين الخوف والرجاء، بين الأمومة المشفقة والتّوكل التام، فتتفجر زمزم كرامةً من السماء، ووساماً خالداً على صدر الصابرات المحتسبات، ثميجعل الله سعيها من بعد ذلك شعيرةً من شعائر الحج، تُحييها الملايين من بعدها، وهو من أرفع أوسمة الشرف الإلهي التي قد تناله امرأة على هذه الأرض.
واليوم.. تتكرر صورة هاجر في غزة، حيث المرأة الفلسطينية تركض فوق رمضاء النار، تبحث عن أشلاء أبنائها الذين تمزّقت أجسادهم بصواريخ الاحتلال، تسعى بين الرضا والتسليم صابرةً محتسبة، تُردد في أعماقها: “لن يُضيّعنا الله.. إنا ثابتون”، فاللهم ارزقهُنّ منازلَ الحمد في الجنة بما صبرنَ وأُوذين في سبيلك، وفجّر لهم زمزماً من رحمتك، يروي ظمأ القلوب، ويغسل وجع السّنين، ويكون لهنّ أمناً في وحشة العالم، وسنداً في زمن الخذلان، وبشر الصابرين.
علّمتنا هاجر أنّ الصّبر مفتاح الأعطيات، وعلّمتنا أمهاتُ غزّة أنّ النّصر الحقيقي لا يكون إلا بالصبر والثبات، وأن من علّق قلبه بالله لا يخيّبه الرجاء؛ فالله وعد بالنصر ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُه﴾ الحج: 40، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ الطلاق: 3.
الذبح… طاعةٌ لا تُساوَم
ليست قصة ذبح إسماعيل -عليه السلام- مجرّد حكاية تُروى في موسم الحج، ولا مشهداً درامياً نمرّ عليه بعين العارفين؛ بل هي ذروة الإيمان حين يبلغ مُنتهاه، وحيث تُختبر القلوب لا الأجساد، وتُوزن الطاعة بعزم الفعل لا بتلكؤ الدموع، نبيٌ يؤمر بذبح حبة فؤاده، ذاك الذي جاءه على كِبَر، بعد شوق وطول انتظار، ثم يُطلب منه نحرُ ابنه، فلا يتردّد طرفة عين، بل يُسلم لله، والابن يُذعن قائلًا: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ الصافات: 102، لكن الله لا يريد الدم، بل يريد البرهان على الإخلاص، واختبارٌ لأهليّته لنيل مقام الخليلية الممنوحة للحبيب، والإثبات على منتهى التسليم، فلما رأى منه الصدق؛ فداه ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ الصافات: 107، فما كان الذّبح موتاً، بل كان ولادةً جديدة، وكان إعلاناً لمبدئٍ سُننيٍ ماضٍ؛ أن الطاعة حين تكتمل؛ تُنقذ صاحبها، وتُطهّره، وتُقرّبه، وبه يكون الارتقاء في مدارج القُرب والتّسامي في مراتب الحبُّ المتجلية في منتهى الخضوع في التسليم.
وهكذا هم أهل غزة اليوم يقدّمون أبناءهم قرابين لا للذبح، بل للحريّة والكرامة والدّين، يذوقون من البلاء المبين، كما ذاقه إبراهيم وإسماعيل، ويُقدّمون دماءهم لا طمعاً في دنيا زائلة، بل في دار النعيم: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾ الصافات: 106، لم يسلِّموا للظلم ولم يستسلموا للقهر، وتغلّب في قلوبهم حبّ الخالق على كل حبٍّ سواه، وذاك هو منتهى التسليم.. التسليم الذي يستجلب الإنقاذ والتطهير، ويسمو بهم في مقامات الصدق، ويرفعهم في عليين، حيث لا يُقاس النصر بعدد ولا عُدّة، بل بثبات القلب وصدق النّية، وبالقَدم التي لا تزلّ وإن زلزلت الأرض من تحتهم، وبالعين التي تبكي خاشعةً لا يائسة!
هؤلاء هم أبناء غزة، نُسخةٌ حيةٌ من مدرسة إبراهيم، يُسلمون أمرهم لله، ويعلمون أنّ الذّبح الذي نجا منه إسماعيل لم يكن نجاةً من الموت؛ بل عبورًا إلى الحياة، وأنّ الدماء التي تُسكب على ترابهم؛ ليست خسارة، بل هي توقيعٌ بالعزّة في سجل الخالدين، فاللهم كما فديت إسماعيل بكبش من السماء، فافدِ أطفالهم من نار الاحتلال، وارفعهم مقاماتٍ لا يبلغها إلا الصادقون، واملأ قلوبهم يقينًا، وجراحهم أجرًا، وأيامهم بُشرى قريبة لا تخيب.
غزّة… حكاية نبي في جسد أمة
في سجل الأنبياء، تقف قصة إبراهيم -عليه السلام- شاهدة على إيمان لا يُهزم، واجه النار، والأصنام، والغُربة، والبلاء في الأهل والوطن، وخرج من كل ذلك أقوى، لأنه قال: ﴿حسبنا الله ونِعْم الوكيل ﴾ آل عمران: 173، فقال الله للنار: ﴿يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم﴾ الأنبياء: 69، فاحترقت النيران، لكن الإيمان لم يحترق.
واليوم، يتكرّر مشهد الحرق والابتلاء، ليس مع نبيٍّ واحد، بل مع شعبٍ بأكمله، سُنن الله ماضية، والقصصُ تتكرّر، لكن الأشخاص يتبدّلون، والأمكنة تتغير، فهل نعي الحكمةَ والغايةَ العظمى من وُجودنا ومن فتنة الابتلاء؟!
شعب غزة اجتمعت فيه كل صور الابتلاء؛ الحصار، والحرب، والقتل، والإبادة، والتجويع، والحزن، والموت…
ومع ذلك، لم تفتُر ألسنتهم عن: “أَحدٌ… أَحدٌ“، كأن الحجرَ الذي كوى ظهر بلال في رمضاء مكةَ، هو نفسه الذي ينهال على رؤوس الأحياء في غزة اليوم، وكأن أتونَ الأخدود الذي أُلقِي فيه المؤمنون، قد أُلقِي فيه أهل غزة دفعةً واحدة، فتجلّى في ذلك أعظم مشهد للتضحية والفداء والتسليم، بل والمحبة المتناهية لخالقهم، فأي حبٍّ يشبه هذا الجلال في الحب!
تعلمنا مواقف سيدنا إبراهيم -عليه السلام- في صراعه مع الباطل أن الحق لا يُقايَض بالنَّسب والدم، وأنّ الإيمان لا يُساوَم عليه بالعاطفة، وأن الدّين إذا لم يكن مُقدَّماً على الأهل والوطن؛ فهو مَسخٌ لا وزن له عند الله، ولا عند أصحاب القلوب.
علّمنا إبراهيم – عليه السلام- أن الموقفَ لا يُقاسُ بعدد الأتباع؛ بل بصدق التّوحيد، وأنّ الوقوفَ في وجه الباطل -ولو كنتَ وحدك- هو عين الجماعة، وأنّ النّار التي تُشعلها الأصنام في وجه الموحّدين، لا تُحرِقُ من كان الله معه، علّمنا أنّ البراءة من الشّرك أوّلُ خُطوةٍ نحو تمام الإيمان، وأنّ القلب الذي يعانق الحقَّ لا يتلوّن بالمحن، ولا ينكسر الخذلان، علمنا خليل الرحمن أن المؤمن لا يربط نفسه بالأرض وحسب؛ بل بالوعد، وأن العاقبة للمتقين ولو بعد حين.
وتُعلّمنا غزّة أن الحجّ إلى الله ليس رحلةً مكانيةً فحسب، بل مسيراً إلى الأعماق، إلى تطهير القلب من وَهَن الدنيا وتعلّقاتها، وأنّ مبتدأ الطواف المعنوي يتجسّد في تحقيق معاني الإخلاص قبل الطواف المادي حول الحجارة، وأنّ السّعي الوجداني هو ما كان بين طودَي الصبر واليقين، لا فقط بين جبلي الصفا والمروة، وفي هذا يتجلى مبدأ الاستخلاف، إصلاح النفس والناس وإعمار القلوب وتهذيب السلوك ونشر الخير في الأرض، فديننا ليس محضَ حركاتٍ تُؤّدى وشعائر تُوفّى؛ بل روح ومعنى وفكرة وعقيدة يطوف حولها الموحدون ابتداءً، ثم يُكملها الطواف المادي وبغير هذا لا يتحقق تمام الإيمان، ونكون قد غفلنا عن فهم فلسفة هذا الدين!
في غزة… تتجلّى سنن السماء على الأرض، يُبعث الإيمان من تحت الرّكام، وتنبُت الحياة من قبور الشهداء، وتغدو النار بردًا كما كانت على إبراهيم، ويغدو الألم دعاءً، والدم صلاةً، والدمار وعدًا بأن النصر قاب قوسين أو أدنى، فطوبى لمن سعى إلى الله مثخنًا بالجراح، وطوبى لمن ذرف دمعه خاشعًا في محراب الخوف والرجاء، وطوبى لغزة التي لم تكتفِ أن تكون قضيّةً، بل غدت مدرسةً ومحرابًا ونبيًّا لا يُوحى إليه، بل يُوحى من ثباته.
فمن معاني الحج؛ أن تمشي إلى الله ولو على الشوك والرّماد، أن تُسلِم له قلبك وإن تناثرت ذراتك، أن تؤمن، وتثبت، وتُذبح… ثم تُبعث حيًّا في سجل الخالدين، ﴿وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَىَّ مُنقَلَبٍۢ يَنقَلِبُونَ﴾ الشعراء:277.
وتمضي غزة في صمتها المدوّي، تقيم شعائر الحج بدمها، لا بلباس الإحرام؛ تُلبي نداء الله من تحت الأنقاض: “لبيك اللهم لبيك”… ليس بصوت مرتفع، بل بأنين الجرحى، وبكاء الثكالى، وابتسامة الشهداء على محياهم الأخير.
تمشي غزة بين ذَبحين، وتنهض بين إحياءين؛ ذَبح إبراهيم في طاعة، وذَبح غزة في ثبات، وإحياء إسماعيل بفداءٍ كريم، وإحياء غزة بوعدٍ لا يُخلف ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة: 155.
كل بيتٍ في غزة محراب، وكلُّ أبٍ إبراهيم، وكلُّ أمٍّ هاجر، وكلُّ طفلٍ إسماعيل، وكل مئذنةٍ تهدّمت؛ أقامتها الأرواحُ أذاناً، فصدحت “الله أكبر” رغم القصف، رغم الجراح، رغم موت الكَلِام، هكذا تفهم غزة الحج؛ لا تقف بعرفات لكنها تقف على جبل الصمود، لا تطوف بالبيت لكنها تطوف حول الوعد، لا تذبح الأضاحي، لأن أبناءها ذُبحوا، وكانت هي القربان!
ما دام في الأرض أمثال غزة، فلن يُطفأ نور الحق، وما دام في السماء ربّ يسمع ويرى، فللحقّ يومٌ… تُبعث فيه الأرواح التي نُحرت، ويُقام فيه ميزان العدل…ويُقال لغزة: قُومي، فقد طَهَّرتِ الأرض بالصبر، كما طَهّرَها إبراهيم بالتوحيد.
رانية نصر
27/5/2025