خاص هيئة علماء فلسطين

         

2/8/2024

د. محمد بن يوسف الجوراني العسقلاني

هو القائد الثابت المُعتز بالله، قائد لواء غزة الطهور ، والفارس الأول في الكتيبة الخضراء، ورئيس وزراء فلسطين، 

وشيخ مجاهديها في عصره أبو عبد السلام، إسماعيل بن عبد السلام بن أحمد هنية الجوراني العسقلاني

من قرية جورة عسقلان، أرض الرباط والجهاد، وقرية العظماء الكرام؛ كالشيخ الشهيد أحمد ياسين، والمجاهد الشهيد سعيد صيام، وغيرهم من القادة الكبار، والصفوة الأخيار.

كان ميلاده الميمون في عام 1382 هـ/ 1963م

فمِن الناس مَن يموت يوم يموت هو من أعظم الناس أثرًا في الأرض على عباد الله وبلاده، ومنهم من يموت يوم وفاته وهو لا يساوي شيئاً.

فما كان إسماعيلُ هُلْكه هُلْك واحدٍ*** ولكنَّه بُنيانُ قومٍ تهدَّما

نعم وفاة القادة المباركين بنيان قوم تهدم

ووفاة الرجال المصلحين بنيان قوم تهدم

وشهادة المجاهدين بنيان قوم تهدم

لا لأنا نقدّس رجالنا وقادتنا لا .. فهو مع أنه حق مشروع لفضلهم ومكانتهم وعظيم أثرهم دون عصمة، ولكن لأن العظماء والنبلاء والشرفاء من أهل العلم والجهاد وقادة الحق والعدل غيابهم غياب حُجّة من حجج الله في أرضه،

ونقصُ الأرض برحيلهم نقصانٌ للحق والعدل والعز والتمكين والخير في أرض الله، وبين عباد الله، ففقدان القادة علماً وعملاً وجهادًا ودعوة نقصٌ لكل خير في ربوع المعمورة، فهم الميزان الذي يقيم الله بهم ميل الأرض واعوجاج باطلها.

فحضورهم وكلماتهم وقراراتهم وجهادهم وعملهم هي أركانُ حقٍّ وعدل وعز وثبات ونصر وتمكين لأتباعهم.

إلا أن دماءهم يوم شهادتهم إحياء لأمة تلو أمة، وبعث لجيل بعد جيل، يقوم على شرع الله وإعزاز دينه ورفع رايته.

فهذه رياحين انثرها في رثاء الشيخ المجاهد القائد الفذ أبي عبد السلام تقبله الله في الشهداء؛ تبصرة لكل معتبر، وواعظ خير لكل مستبصر، ليعش كما عاش مجاهدًا عزيزاً كريماً صبوراً حليماً رحيماً.

1- الصاحب النقي والتلميذ الوفي

صحب القائد إسماعيل أستاذه المؤسس أحمد الياسين رحمهما الله، والكوكبة المباركة من خُلَّص أصحابه، وصفوة رفاقه، فكان معهم الصاحب الأمين، والخِلّ المكين.

تتلمذ في مدرسة شيخه الياسين، فكان خير تلميذ لشيخه وأستاذه، ينهل من علمه وفكره وأدبه وهمته وجهاده حتى ترسّخ ذلك في قلبه وروحه وسلوكه، فلمع ونبغ حتى صار مدير مكتبه، وأمين قلمه، ومشير تعاليمه، وحاذق قراراته، حتى إذا اصطفى الله بالشهادة أستاذه الأول، وخليفته الثاني، وفىٰ بعدهم ويا نعم الوفاء على نهجه ودربه وجهاده حتى وفاته، صدق الله إذ حفظ قوله تعالى علماً وعملاً: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾.( الأحزاب: 23)

صدق الله فصدقه، وها هو اليوم بعد انتظار طويل، وتقلبات شديدة في ميادين الرباط والجهاد والمفاوضات، قضى نحبه وما بدّل تبديلاً، عُرضت عليه الدنيا؛ فأباها، حتى سطَّر  بلسان قوله مقولته الخالدة:

( لن نعترف .. لن نعترف..  لن نعترف بإسرائيل)

وجاء يوم الصدق .. يوم صدّق دمُه مقاله، فنِعْم السعي سعيكم، وربح البيع بيعكم، فسلام الله عليكم في الخالدين.

2- القائد الملهم

القائد الفذ الصادق الذي يحمل همّ دينه وأمّته، مَن يتفأد فؤاده على دينه وعزة أمته وكرامتها، لا يطيب له عيش ولا يقرّ له قرار حتى يعز دينه ويَنعم قومه وشعبه وأرضه.

وهكذا كان قائدنا الراحل، فتراه:

دوماً في المقدمة

دوماً في أول السبق

دوماً في أول كل محمدة

دوماً في أول كل تسلية لكل مصاب صغير أو كبير

دوماً أباً وأخاً ومعيناً لكل مسرور ومنصور يزيد في سعادته ونصرته ومسرّته

ودوماً أباً وأخاً وكافلاً لكل مهموم ومكروب ومحزون في مصيبته

وهكذا القادة العظام.. يأتسون هدي نبيهم ﷺ في أوليته في كل خير ومحمدة في ميادين نفع الدين والأمة

وصدق علامة الجزائر البشير الإبراهيمي رحمه الله حين قال:

لا نرتضي إمامَنا في الصفِّ *** ما لم يكن أمامَنا في الصف

فهو الأمام في كل كُربة، وهو  الإمام في كل قُـرْبة!

شعار هؤلاء القمم الشوامخ من لفيف الطائفة المنصورة بإذن الله :

إنا نقدم قبل الجُند قادتنا *** نحو المنون سباقاً نحو مولانا

فالقادة هم مشاريع شهادة من الأساس، واستشهادهم واستهدافهم شيء متوقع، حتى يأذن به الله، ويوم يقع فهي البشرى التي يرجون، والمغنم الذي يطلبون، وهو لمن بعدهم ثباتٌ ودافعُ قوةٍ أنهم على ذات الطريق الصحيح بحمد الله غير هيَّابين ولا مبدِّلين.

والقائد إسماعيل رحمه الله إذ يمثل اليوم رأس هرم  حماس المباركة، هو على ذات الطريق شهيداً بإذن الله نحسبه والله حسيبه، أكرمه الله بذات الاصطفاء، فلحق بأشياخه ورفاق دربه، وبأبنائه وذريته ونال ما تمناه وعاش عليه، تقبله الله في الشهداء والصالحين، فرضي الله عن هذه الفئة المباركة ورجالات الطائفة المنصورة.

3- السياسي الداهية

كان القائد إسماعيل رحمه الله يضربُ بيدٍ من حديد في رؤيته، ويقاتل بشراسة وبسالة في مجد وعزِّ أمته.

أركع بني صهيون في هذا الطوفان في كل الميادين

عسكرياً وسياسياً وأخلاقياً طوال هذه العشرة أشهر!

نالوا منه ومن أسرته وعمومته كثيراً، تقبَّل الله شهداءهم وشفى جرحاهم، فما جزع ولا قنط، بل أقامه الله مقام فخر وعز في موقف من مواقف الشموخ والإباء والصبر والثبات، ما كان آية من آيات الله، يظهرها الله على أهل كرامته، من جنده وأوليائه.

كان قدّس الله روحه يصول ويجول في ميادين السياسة ودهاليز مكرها ودسائسها الخبيثة ببصيرة ربانية، وبنور وعين ورعاية من الله، فكان ثمرة ذلك صواب رؤيته، وصحة بوصلته، وثباته على رواسخ دينه وأرضه وقضية شعبه، لا يتزعزع عنه قِيْد أنملة، ومَن كان في كنف الله فلا ضَيعةَ عليه.

استمرَّ رضي الله عنه مع إخوانه طيلة الشهور العشرة يجاهد ويكافح ويناصر،  ويحقق ويدقق في صفقات الفخر والنصر، ويرفع راية البشرى والعز والمجد والتمكين، فلم يضعف أو يذل أو يهن أو يجبن، بل كان وإخوته معه صمام أمان لأمته وشعبه ورجاله بعد الله في تحصيل حقوقهم وعوضهم ومجدهم وعزهم وكرامتهم

يكرُّ من ميدان إلى ميدان، ويصول من ثغر إلى ثغر ، ويجول من بقعة إلى بقعة، ساعياً لكل نصر، حافظاً لكل حق، مؤدياً لكل رسالة، أميناً على كل وصية.

فشكر الله سعيه، وعلى الله أجره.

4- رجل القرآن

إمامُنا من حملة القرآن وأهله الحافظين له، التالين لآياته العاملين بما فيه آناء الليل وأطراف النهار

تسمع منه قراءته ويا نعم ما تسمع قراءة أخَّاذة مؤثرة،

وإذ رُزقنا الصلاة خلفه فسمعنا ونَعِمْنا بقراءة من تحسبه يخشى الله، تسمع قراءته في صلاته قراءة من عاش في كنف الآيات وجوِّها ، وكأنها للتَّوِّ أنزلت، يرتل قراءته بصوته خاشع هادئ، في منطق عذب، ومخرج فصيح، وتفنن بديع في اختياراته، مع قراءة محزنة يعيش في الآية وتعيش فيه، مع حُسن وقوفات، وجميل بدايات،  ومَن وقف فقد فسّر !

ينتقي جليل الآيات الغنية ببديع المعاني للقضايا التي يعيشها.

لله درُّ هذا القلب وهذا الجسد الذي يحمل كل هذه المعاني في هاته المشاهد الربانية المتجسدة في رجال القرآن والجهاد ، مع هذه الهموم فوق كاهله من قضايا دينه وأمته وشعبه في وقت شدة إغلاق الأبواب أمامه وحصاره، ورفع الخيارات الميسرة لعيش كريم لشعبه وأمته!

فما استسلم، وما جزع، وما قنط من رحمة الله وفرجه، وهكذا أهل القرآن،  فمن كان القرآن ربيع قلبه وروحه ونفسه لا يشقى معه، كيف ونزول القرآن كان أسمى نعمة أُكرِم بها نبينا ﷺ، ﴿ مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ ﴾ [طه – ٢]

وأهل العلم والجهاد وقادة الحق أسعد الناس حظاً بوراثة النبوة ومعين أنوارها وثمراتها وزكاتها .

فطوبى لهذا القائد المجاهد حامل القرآن وحافظه، عاش في كنفه وعلى مائدته، واستهدى بهداياته، وسار على شرعه. سائلاً المولى جلَّ في عليائه أن يجعل القرآن شافعاً له وهادياً بين يديه لجنات عدن في نعيم مقيم، عند رب كريم.

5- الصفي الشهيد

وجاء يوم الشهادة يوم أذن الله لاصطفائه شهيداً بإذنه،

مقبلاً غير مدبر، يكرُّ مرات ومرات في ميادين وثغور تحصيل أمجاد دينه وعزة قومه وشعبه وأرضه، لا ينثني ساعة من نهار في تحصيل ذلك في لقاءاته ومفاوضاته القوية العزيزة الصلبة، لا يذل ولا ينهزم ولا يضعف ولا يهون،

حتى رزقه الله الشهادة في السَّحر؛ سحر الأبرار والعُبَّاد وأهل قيام الليل؛ قبيل فجر الأطهار من يوم الأربعاء 24 محرم 445هـ/ 31 -7- 2024م

ليصطفيه الله مع أحد حراسه الأفذاذ الصادقين المصدقين في غارة آثمة يهودية غادرة ، زفَّته لجنات عدن مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً،

فطار خبر استشهاده في الآفاق، ورفع الناس أكف الدعاء والضراعة له بالرحمة والمغفرة، مع ثناء حسن وشهادة طيبة مطيبة بالخير ولسان الصدق في الآخرين ؛ توجب له بحول الله وقوته جنات عدن، بحسن ظننا بالله على لسان رسول الله ﷺ إذ قال: ( أنتم شهداء الله في أرضه ).

  فاللهم إنا نشهدك أنه عاش على رضوانك وعلى نهج نبيك ﷺ مجاهداً مرابطاً في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

وكان قدَّس الله روحه من أهل الله، ومن رجالات العلم والجهاد والدعوة، والقيادة الصالحة المصلحة الساعية في إعزاز دينها ومجد أمتها، وصون بيضتها وحماية مقدساتها، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، باذلاً نفسه وماله وأهله ووقته كله في سبيل ذلك، فعرفته الدنياً رجلاً قائداً عزيراً مباركاً كريماً شامخاً، كما عرفه أهله وقومه أستاذاً ومحاضراً وإماماً في المصلين وحافظاً لكتاب الله، ومجاهداً وقائداً ومرابطاً، وسياسياً صعباً يقيظاً حاذقاً فهيماً نبيهاً عزيزاً كريماً مقداماً، فما لان ولا ذلّ ولو أغلقت أبواب الدنيا في وجهه، فباب الرجاء بربه موصول غير مقطوع.

وهو الذي كان دوماً يتسلَّىٰ بأبيات طيبة ينشدها بصوته الجميل:

ماضٍ واعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطفي

طارت روحه الطاهرة الزكية النقية لتقرَّ في أجواف طيرٍ خُضر تسرح في الجنان حيث شاءت بإذن الله  مع أرواح الشهداء

فطابت حياتك يا قائد إسماعيل.. وبورك سعيك المبارك الجميل.. ونعمت روحك في الجنان بعد جهادك الرابح الأثيل

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

رحمك الله أبا عبد السلام، وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأنزل على قبرك شآبيب رحمته ومغفرته ورضوانه.

فنَمْ نومةً هنية يا أبا العبد هنية.

هذه سوانح خُلد.. ومشاعر صدق لمن أحبنا وأحببناه، ونعمنا في مجالسه بلقياه، ولعل قابل الأيام يأذن الله بنشر عبير خفايا أعماله الصالحة، وجهودة المباركة الخفية، وهي من عاجل بشرى المؤمن.

أحسن الله عزاءنا في هذا القائد الهمام، وأخلف الله علينا بخير خلف لخير سلف.

فكلما مات فينا قائد *** قام فينا ألف قائد

اللهم أجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيراً منها

كتبه محبك الداعي لك بكل خير

حتى نلقاك مع الأحبة

د. محمد بن يوسف الجوراني العسقلاني

الأردن – عمان

1-8-2024