22/3/2025

يحيى بشير حاج يحيى

من معاني البطولة أن يتفوق الرجل على أقرانه في صفة أو صفات! “ أما اللغويون فيقولون على لسان شيخهم ابن منظور: البطل هو الشجاع، وقال بعضهم:(دعي البطل بطلاً لأن الأشداء يبطلون أمامه، فلا يساوون عنده شيئاً )  (1).

وثمة سؤال ينبني على هذه التعريفات: هل البطولة هي الشجاعة؟ وهل كل شجاع بطل؟

يقول الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا: ليس كل شجاع بطلاً، وليست كل شجاعة بطولة….أرأيت إلى كبار قُطَّاع الطرق، وقراصنة البحار ممن عرفهم التاريخ في الغابر. وإلى المشاهير من السطاة على المصارف، ومختطفي الطائرات في عصرنا الحاضر؟ إن هؤلاء وهؤلاء يتحلون جميعاً بشجاعة فذة نادرة، ولكنه لم يخطر ببال أحد من الناس أن يسميهم أبطالاً..

وفي عصرنا هذا أُطلقت البطولة على كثير من المواقف والأعمال والأشخاص، وسمي بها من لا يستحقها، وتداولتها أوساط هي بعيدة كل البعد عنها، فكان ذلك من التشويه والتزوير اللذين يحملان في طياتهما أبلغ الأضرار، فللتمثيل بطولة، وأبطال وبطلات، وللكرة بطولة، و للرقص بطولة. وقد شارك في هذا التزييف كثير من أنواع الصحافة، وكان هذا يعني كما يقول الدكتور حلمي محمد القاعود في كتابه الصحافة المهاجرة، أشياء كثيرة بالنسبة للمجتمع منها: إضفاء صفة البطولة على أعمال تافهة، تصل في كثير من الأحيان إلى مستوى السقوط والتعهر والرذيلة.

ومنها: ابتذال مصطلح ( البطولة ) وتفريغه من مضمونه العظيم والرائع الذي يعني أول ما يعني تحقيق المجد والعزة للوطن المسلم في ميادين الجهاد والحضارة.

ومنها: سحب البطولة الحقيقية ممن يبنون المجتمع المسلم بالعلم والجهد والجدية.

ومنها: تحقير كل جهد عملي وبناء يقوم به أبناء المجتمع لصالح الوطن الإسلامي إذ يصبح الرقص والغناء و التمثيل هي القيم العليا التي ينبغي السعي وراءها، ومن أجلها.

ورحم الله أحمد شوقي إذ نظر إلى البطولة فرآها استعلاء على متطلبات النفس، وتصعيداً لغرائز الإنسان :

إن البطولة أن تموت من الظمأ

ليس البطولة أن تعب الماء

وقال آخر وقد هاله ما وصل إليه هذا المفهوم من تشويه وتحريف عن معناه السليم:

يا عجباً من غفلة جيل

أمسى اللهو لديه فنونا

فبطولاتي صارت كرة

وطموحي أمسى “بالونا”

وبعد هذا، فما البطولة الحقة؟ وما تعريفها؟ ومعالمها؟

يقول د. عبد الرحمن الباشا في كتابه ( البطولة ) محاولاً وضع إطار يحدد معالم البطولة:( إن البطولة كل موقف رائع فذ من مواقف الحياة، بعثت عليه غاية جليلة نبيلة ). وهذا التعريف الذي خرج به الدكتور الباشا _ رحمه الله _ جاء نتيجة استقراء واسع، واطلاع كبير على جوانب حياة كثير ممن اتصفوا بهذه الصفة فقد كتب سلسلتين عن حياة الصحابة وحياة التابعين تُبرز أهم صفاتهم، ولم تكن البطولة الحقة إلا واحدة من هذه الصفات! وهي ليست مقصورة على المواقف الرائعة الفذة التي يأتي بها الأبطال في ساحات الوغى، وإنما هي ضروب وألوان. لها بواعث يستنبطها المؤلف من تاريخنا الغني الثري، وعلى رأس هذه البواعث الإيمان بالله؛ لأنه قوة مبدعة إذا مست القلوب بسحرها اهتزت بأروع الشمائل، وقد عرفها المسلمون منذ الأيام الأولى التي بزغ فيها فجر الدعوة في بطحاء مكة! وصاحبتهم عبر تاريخهم الطويل، وستبقى سمة من سمات الأمة الإسلامية.

وأما الباعث الثاني: فهو الكرامة والعزة، ومن يستعرض التاريخ الإسلامي يجد ألف بطولة وبطولة بعثت عليها العزة و الأنفة، وكم من قائد أقبل على موارد الموت يدفعه إلى ذلك الأنفة من عار الفرار، ثم الحب في الله وهو من بواعث البطولة الكبرى. وقد حفلت كتب التراجم والسير بأروع الأمثلة عن هذا الحب وبطولاته!

وأما الباعث الثالث: فهو الإيثار على النفس وهو من المكارم التي خصها الله بالذكر في كتابه، ونعت بها أنصار نبيه صلى الله عليه وسلم في جملة ما نعتهم به من جليل الشمائل!

ومن هذه البواعث غنى النفس، والزهادة. بما في أيدي الناس، واحتقار عرض الحياة الفاني، ومنها نقد الذات وصدق المرء مع نفسه، و إخلاصه في نقدها، وقدرته على مواجهتها بعيوبها، ومصارحتها بها… وهي خصلة لا يُلقّاها إلا ذوو النفوس الكبيرة. ولا يحظى بها إلا أصحاب الحظوظ العظيمة، ذلك أن الصدق مع الآخرين، ومواجهتهم بأخطائهم مواجهة صادقة خالصة بناءة أمر يشق على النفوس فكيف بنقد الذات…. ومنها تقوى الله:

ليس من يقطع طُرْقاً بطلاً

إنما مَن يتقي اللهَ البطلْ !!

فإذا تمكنت هذه المنقَبةَ من قلب امرئ أحكمت سلطانه على نفسه، وشددت قبضته على هواه، وملأت بالبطولات أعماله وتصرفاته! ومنها الرضوخ للحق والإذعان له، والانصياع للشرع والرضوخ لأحكامه مهما كانت قاسية على النفس، وتقديس الحق والرغبة في الوصول إليه، والصدق والإخلاص في تنفيذه مهما كان ثقيل التبعات .

لقد بات ضرورياً أن نجدد مفهوم البطولة، ونوضح معالمها، ونبرز تطبيقاتها في الحياة، ونزيل الغبش الذي شوه وجهها، ثم نضعها في ميدانها الصحيح، فلا تطلق إلا على من يستحقها حقيقة؛ لأن “ البطولة والبطولات ليست ترفاً في حياة الأمم، ولا قصصاً تروى للتسلية وتزجية الفراغ، وإنما هي حاجات ضرورية أساسية، لا تكتمل حياة الشعوب إلا بها! ولا تبنى المجتمعات الفاضلة القوية إلا على أساسها فبالبطولات تتجسد قيم الأمة ومثلها… وتبرز خصائصها ومقوماتها، وتقوى ثقتها بنفسها. وبالأبطال تتحقق لأبناء الأمة القدوة والأسوة، وتتحول الخلال والخصال إلى كائنات حية تمشي على الأرض… و الأبطال _ منذ كانوا _ مشاعل تضيء للناشئة دروب المجد والسؤدد والخير والبر، ومنارات تشد أعينهم نحو الذُّرَى والقِمَم).

نقلاً عن :

https://www.odabasham.net/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9/52154-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85%D9%8A%D9%86