خاص هيئة علماء فلسطين

         

4/8/2024
د. منذر زيتون


مذ كنا صغاراً ونحن نسمع قولهم “الموت ولا المذلة”، يخطبون بها.. يغنونها، ويتراقصون عليها، ولكن لم نرَ أن تلك المقولة انعكست على واقعنا، فكبرنا وكبرت معنا تحدياتُ الواقع التي كانت تؤكد لنا كل يومٍ المآسي التي نعيشها، كبرنا ونحن نرى ضعفنا، وفقرنا، وتخلفنا، وتبعيتنا.. كبرنا ونحن نرى استخفاف الغرب بنا، وسرقته مقدراتنا، وتحكمه فينا، واتهامنا، وازدراءنا، ومناصرته لعدونا على حسابنا.. حتى علمنا ما بين تلك المقولة وبين واقعنا من بون شاسع، بون لم تلغيه تطمينات السياسيين لنا، ودوام قولهم “إحنا بخير”، ولم يخفف منه تفاخرهم بإنجازاتهم، وبحديثهم عن تقدمنا المزعوم، وعن موقعنا بين الأمم..
بلادنا العربية وشعوبنا الإسلامية ورموزنا المقدسة.. كل يوم مصيبة، كل يوم ذل ومهانة، انظر إلى: العراق.. سوريا.. مصر.. موريتانيا.. الصومال.. أفغانستان.. لبنان.. فلسطين.. بلاد محطمة.. مدمرة، أعيدت إلى قرون غابرة، أنظر إلى شعوب بورما، ومينامار، والبوسنة، وأنغوشيا، وبنغلاديش، وآسام، والإيغور.. تذبح، وتحرق، وتشرد.. أنظر إلى رموزنا: قرآننا الكريم.. نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. مساجدنا.. مقابرنا.. مقدساتنا.. تدنس، وتهان.. كل تلك البلاد، وكل تلك الشعوب، وكل تلك المقدسات تلقى الاعتداءات والتجاوزات والتطاولات، ولا تجد من يناصرها أو يهب لنجدتها، لا تجد إلا الصمت المريب، أو الكلام العاجز الفارغ من أي حياة أو روح.. وعندما تزداد الأمور ويحمى الوطيس ترى شعوباً مغلوبة على أمرها لا تملك شيئاً سوى عاطفتها، وصوتها، وسخطها.. تخرج للهتاف، والصراخ، ويدفع كثير من أفرادها حياتهم ثمن إظهار تلك العاطفة.
للأسف، رضي قومنا بكل ذلك النقص، والتخلف، والامتهان، وصاروا يقنعوننا بأن ظهورنا ما دامت سليمة فلا حاجة إلى ننظر إلى ظهور غيرنا، حتى سقطنا واحداً تلو الواحد، وصدقت فينا قصة الطفولة التي تعلمناها قديما: أكلت يوم أكل الثوب الأبيض..
على مر كل تلك الأيام، كان أطفال غزة يكبرون، يكبرون ويكبر معهم التحدي والسخط على ما يعيشونه من احتلال بغيض، احتلال قتل الناس، وهتك الأعراض، وأهان المقدسات، وسلب الأرض والمال، وزور التاريخ والجغرافيا.. أطفال غزة أصبحوا رجالاً، وعرفوا الفارق بين العزة والذلة، وبين الحرية والعبودية، عرفوا الفارق بين الاستقلال والتبعية، وبين الأمانة والخيانة.. فأقسموا أن يخرجوا من تحت تلك العباءة المهترئة التي تدثر فيها من قبلهم سنوات وسنوات، فلم تمنحهم جمالاً ولا دفئاً ولا حماية، رجال غزة رفعوا شعار “الموت ولا المذلة” من جديد، لكن هذه المرة ليس بمجرد كلمات يتغنى بها اللسان، بل أفعال يتغنى بها البنان، فأعدوا لعدوهم ما استطاعوا حتى أرهبوه، وصبروا وصابروا ورابطوا حتى أفلحوا، إنهم صدقوا الله فصدقهم، من كان يظن ولو للحظة أن أهل غزة المحاصرين المستضعفين المتآمر عليهم يتَحدُّون الجيش القوي المتخم بالأسلحة والمعدات، وأنهم قادرين على أن يؤلموه كما يؤلمهم، وأنهم استطاعوا أن يدخلوا الرعب إلى قلوب أفراده.. أهل غزة خلعوا ثوب الذلة، ولبسوا ثوب العزة، لأنهم نصروا الله فنصرهم، ولأنهم حفظوا كتاب الله فحفظهم، ولأنهم آمنوا بالعزة فأعزهم الله تعالى، أهل غزة لن يهنوا ولن يحزنوا وقد حسموا أمرهم، واحتسبوا كل ما يصيبهم عند الله تعالى، مؤمنين بأن نصر الله قريب، وأن الله تعالى سوف ينصر من ينصره.