المواد المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة

         


د. مصطفى جمعة
يشير المعني اللغوي للفظة “الأقصى” إلى دلالة البعد، فأقصى الشيء أي أبعده[1]، وقد سمي بذلك لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام بمكة المكرمة، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض، ويُعَظّم بالزيارة[2]، وقيل: لأنه أبعد المساجد عامة التي تزار، ويبتغى بها الأجر، وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث، وقيل: لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئا ولا ينقص[3].
وهذه التسمية للمسجد الأقصى واردة في كتاب الله تعالى، في مطلع سورة الإسراء، قال المولى جل شأنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. وقد استهلت الآية الكريمة بلفظة “سبحان” التي تعني: التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص، فهذا ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره[4]. وهذه دلالة عامة، ويضيف الإمام الطبري –رحمه الله– في تفسيره المزيدَ حول دلالتها بكونها “تنزيها للذي أسرى بعبده له مما يقول فيه المشركون من أن له من خلقه شريكا وأن له صاحبة وولدًا…”[5]، كما أن نعت الرسول صلى الله عليه وسلم باللفظ القرآني “بعبده” شرف عظيم للنبي الكريم، وقال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسمّاه به في تلك الحالة العلية. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية، تواضعًا للأمة[6].
وتثبت هذه الآية الكريمة مكانة المسجد الأقصى السامية؛ فقد كان مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج. وقد جاء في تفسير الآية ما موجزه: إن الله تعالى أسرى بعبده من المسجد الحرام، وقيل من مكة كلها بوصفها حرمًا، وقد حمله الله تعالى على البراق، حتى أتاه به، وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل ثم عرج به إلى السماء. ويشير التعبير القرآني {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} إلى أن الله تعالى جعل البركة لسكان ما حول المسجد الأقصى في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم[7] وقيل: بالثمار ومجاري المياه، وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين وبهذا جعله مقدسا[8]. وفي قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا} فإن هذا من تلوين الخطاب والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسرائه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة، وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء، ووصفه الأنبياء واحدًا واحدًا[9]، فالمسجد الأقصى موطن معجزة الإسراء، وشهدت أرضه خطو الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنسّم ثراه عبق قدمي الرسول.
والقول الراجح عن علماء الأمة وثقاتها، وما ورد في الصحيح من الأحاديث الشريفة أن هذه الحادثة كانت بروح وجسد الرسول صلى الله عليه وسلم[10].
ويعلق على ذلك سيد قطب حيث يقول: “أمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره، متفاوتة السهولة والصعوبة، حسب ما اعتاده وما رآه، والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله. أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى على غير قياس أو عادة لبقية البشر، وهذه التجلية لمكان بعيد أو عالم بعيد، والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة؛ ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه”[11].
يرسي هذا التعليق حقيقة راسخة؛ فليس هناك معجز على الله سبحانه، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي في أي وقت وأي مكان، فمن السهل إتمام هذه المعجزة، لتكون –مع غيرها من المعجزات– علامة على تفرّد النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وتتويجًا للإسلام خاتم الديانات والرسالات. فالحادثة تحمل في طياتها عشرات الدلالات التي تؤكد عظم مكانة الرسول محمد، وعظم رسالته السامية، الرسالة الخاتمة الشاملة. ويجدر بنا تقديم إطلالة موجزة على أحداث الإسراء، من أجل الوقوف على التشريف العظيم الذي ناله المسجد الأقصى في هذه الحادثة.
إن هناك اختلافًا في موعد حادثة الإسراء: فيذكر ابن عساكر أنها كانت في أوائل البعثة، أما ابن إسحاق فيقول إنها بعد البعثة بحوالي عشر سنين، وذكر الزهري أنه كانت قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسنة، وعن إسماعيل السدي أنها كانت قبل مهاجَره بستة عشر شهرًا أي في شهر ذي القعدة، ويذكر ابن عباس أنها كانت في شهر ربيع الأول، وقيل: إنها في شهر رجب ليلة السابع والعشرين[12]، والثابت أنها كانت في عام وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها، قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بثلاث، وقيل بأربع[13].
وعندما نستعرض ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم على أرض الإسراء نرى مواقف دالة على الإعجاز الرباني الذي يدل على عظم هذه البقعة في أرض الشام، وكيف أن الله سبحانه وتعالى اصطفاها دون سائر الأرض لتكون مسرى لنبيه صلى الله عليه وسلم. ويروي الأحداث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه– فيقول: “أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق؛ وهي الدابة التي كانت تحمل الأنبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها، فحُمِل عليها. ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض. حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، قد جُمِعوا له، فصلّى بهم. ثم أُتِي بثلاثة آنية من لبن وخمر وماء، فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال له جبريل: هُديتَ وهُدِيَتْ أمتك وحرمت عليكم الخمر.
وفي الخبر أيضًا: أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء بيت المقدس ربط البراق بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد”[14] وتكمل أم هانئ الخبر: “ما أسرى برسول الله إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أيقظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى الصبح وصلينا معه، قال: يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة كما ترين[15]، ثم قام ليخرج فأخذت بردائه فقلت: يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبوك ويؤذوك، فقال: والله لأحدثنهموه. فأخبرهم فكذبوه”[16].
في الخبر السابق عدة أمور:

  • تكريم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بحادثة الإسراء والمعراج.
  • إن سياق الخبر يدل على أن الحادثة كانت بالروح والجسد، ولو كانت بالروح فقط أو هي رؤيا لظهر ذلك في لفظ الرواية.
  • إن تعظيم المسجد الأقصى عائد إلى صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه مع ثلة من الأنبياء والمرسلين، وقد ربط البراق بحلقة في بيت المقدس، وهذه إشارات مادية حية على هذا التكريم النبوي لتلك البقعة. وفي رواية ابن هشام أن البراق: “دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان، يحفز بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه”[17].
  • إن هذه الحادثة شهدت تحريمًا غير مباشر للخمر، حينما اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم إناء اللبن، وهو أمر دال على الفطرة السوية التي كان عليها المبعوث رحمة للعالمين.
  • إن إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم على إخبار أهل مكة بالحادثة دليل على يقينه، ورغبة في إعلامهم بمعجزة خالدة من معجزات رسالة الإسلام، وقد ساق الرسول من الشواهد الملموسة الكثير، على وقوع الأمر؛ منها: إرشاده صلى الله عليه وسلم لجماعة من الأعراب فقدوا عيرا لهم عند توجهه إلى الشام، وشربه من إناء فيه ماء لقوم كانوا نياما، وإخباره قريشًا أن عير هؤلاء القوم عند ثنية التنعيم البيضاء، يتقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء، وقد تحققت قريش من هذا الخبر عندما قدمت هذه العير [18].
  • إن الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تدبير مقدر من اللطيف الخبير كي “تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد خاتم النبيين، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعًا. وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلاء وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعا” [19].
  • إن هذه الحادثة أكدت تقدّس هذا المكان، لذا جاء في تعريف بيت المقدس أنه: الأرض المقدسة، أي المباركة، وقد قيل: إنها تشمل دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وبيت المقدس منه [20]، ومن ثم فإن الاهتمام لا ينصب على الدفاع عن الأقصى فحسب، وإنما عن سائر الأرض المحيطة به، فقد نالت من شرف القداسة الكثير.
    ولا شك أن تذكر الإسراء والمعراج يكون سبيلا –ضمن سبل أخرى– لتذكر مكانة المسجد الأقصى، ذلك أن الإسراء يعيد إلى الأذهان، ويرسخ في القلوب، كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سار وصلى وأمّ الأنبياء في هذه البقعة المباركة، وكيف عرج به إلى السماء من هذه البقعة، وإحداث صلة ما بين ما تقدم من مجد ومكانة لهذه البقعة، وما تأخر من تعرضها للاحتلال.
    فضائل مدينة “بيت المقدس” موطن الأقصى:
    مدينة “بيت المَقْدس” بفتح الميم وسكون القاف، تعني: المكان المطهر من الذنوب، واشتقاقه من القدس وهي الطهارة والبركة، ويقال: المكان المرتفع المنزه عن الشرك [21]. ونلاحظ أن بيت المقدس ذات صخرة مرتفعة، ورد كثير من المعلومات عنها في كتب التاريخ، فلعل الوصف هنا بأنها مكان مرتفع منزه يجمع بين البعد الجغرافي ارتفاع المدينة والبعد الديني بكونها ذات قداسة.
    أما اسم المدينة في اللغة العبرانية فهو “أورشليم” ومعناه: بيت الرب، ولها أسماء أخرى منها: صهيون، وقصرون [22]. واسم بيت الرب ذو دلالة واضحة على تقدس المدينة في اليهودية والنصرانية، وهذا لا يؤكد أحقية اليهود فيها، بقدر ما يشير إلى أن هذه المدينة لها القداسة في مختلف الديانات، ولدى جميع الأنبياء على نحو ما سيرد بعد. أما لفظة صهيون، فهي اسم جبل مجاور للمدينة يحمل هذا الاسم، وقد انتسبت الحركة الصهيونية الحديثة إليه إمعانًا في التضليل والتقنع بقناع الدين وربط مصيرها بمصير القدس.
    ونلاحظ أن اسم “بيت المقدس” يطلق على المدينة المقدسة “القدس الآن” تارة بشكل عام، في إشارة إلى أن البقعة كلها مقدسة، وهذا تأكيد للآية الكريمة {الذي باركنا حوله}؛ وقد يشار إلى المسجد الأقصى بعموم لفظ بيت المقدس في بعض الكتابات، وهذا عائد إلى عدم التفريق في الضبط والشكل بين المَقدس والمُقَدَّس، فالأولى تطلق على المدينة “بيت المقدس” والثانية تطلق على المسجد “البيت المُقَدَّس”.
    لا يقتصر التشريف لبيت المقدس على حادثة الإسراء والمعراج فقط، ولا لكونها تحتضن في ربوعها المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، بل يتخطاه إلى فضائل أخرى، مرت إشارات عدة لها في القرآن الكريم.
    ففي تفسير قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قال مقاتل بن سليمان: هي بيت المقدس. وقوله تعالى لبني إسرائيل: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه: 80] يعني بيت المقدس. وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] هي: بيت المقدس. ومنها قوله تعالى إلى بني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] فالأرض المقدسة هي بيت المقدس، وأيضا قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]. قيل بوأهم الشام، وبيت المقدس خاصة.
    ورفع الله عيسى بن مريم عليه السلام من بيت المقدس، وفيها مهبطه قبل قيام الساعة. وأول شيء حسر عنه بعد الطوفان هو صخرة بيت المقدس، وفيه ينفخ في الصور يوم القيامة، وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة، ومنها قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] قيل النصب هي صخرة بيت المقدس، وأيضًا قوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] قيل إنه ينادي من صخرة بيت المقدس. وقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14] والساهرة بجوار بيت المقدس [23].
    وأقرب بقعة في الأرض إلى السماء بيت المقدس، ويمنع الدجال من دخولها، ويهلك يأجوج ومأجوج دونها، وأوصى آدم عليه السلام أن يدفن بها، وكذلك إسحاق وإبراهيم، وحُمِل يعقوب من أرض مصر حتى دفن بها، وأوصى يوسف عليه السلام حين مات بأرض مصر أن يحمل إليها، وهاجر إبراهيم عليه السلام من “كوثى” إليها، وإليها المحشر، ومنها المنشر. وقد تاب الله على داوود عليه السلام بها، وصدق إبراهيم الرؤيا بها، وكلّم عيسى الناس في المهد بها، وتقاد الجنة يوم القيامة إليها، ومنها يتفرق الناس إلى الجنة أو إلى النار. وعن ابن عباس قال: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلّى فيه نبي أو أقام فيه ملك [24].
    يظهر لنا مما سبق أن بيت المقدس ليست بقعة عادية في الأرض، وإنما بقعة مقدسة، نالت تقديسها منذ قديم الزمان، ودلت الكثير من الكتابات التاريخية على ذلك، وهذا ما جعلها تحتل مكانة كبيرة، خاصة أن الكثير من الأنبياء والمرسلين والصالحين مروا بها وأقاموا فيها، والكثيرون سعوا إلى سكناها والرغبة في الدفن بها، فليست قداستها عائدة إلى وجود المسجد الأقصى بها فحسب، وهو من المساجد المقدسة لدى المسلمين، وإنما تشترك فيها سائر الديانات السماوية.
    وقد حظيت المدينة المقدسة بإقامة العديد من الصحابة الكرام، وحرصوا هم أن يوصوا بأن يدفنوا في ثراها، ومنهم: عبادة بن الصامت، أبو ريحانة الأزدي، فيروز الديلمي، شداد بن أوس، مسعود الأنصاري، سلام بن قيس الحضري رضي الله عنهم جميعًا. كما مر بها عدد كبير من كبار الصحابة منهم: عمر بن الخطاب، أبو عبيدة بن الجراح، عمرو بن العاص، خالد بن الوليد، معاوية بن أبي سفيان، عبد الرحمن بن عوف، بلال بن أبي رباح، وأم المؤمنين صفية رضي الله عنهم جميعًا. وهؤلاء جميعًا حرصوا على نيل مثوبة الصلاة في الأقصى، والسير على أرضه الطيبة. وأيضًا حظيت بإقامة الكثير من العباد والزهاد والتابعين مثل: عمر بن عبد العزيز، مالك بن دينار[25].
    أما فضل المسجد الأقصى فمنه ما جاء في صحيح السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا”[26] ، وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء”[27].
    في رواية أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا، ولا تسافر امرأة مسيرة يومين إلا مع زوجها أو ذي رحم محرم من أهلها”[28].

والمسجد الأقصى رابع أربعة أمكنة لا يسلط عليها المسيح الدجال: مسجد المدينة، ومسجد مكة، والأقصى، والطور[29].
بناة المدينة:
كما روي عن كعب أن جميع الأنبياء زاروا بيت المقدس تعظيمًا له، وروي عنه أيضًا أنه قال: “لا تسموا بيت المقدس إيلياء، ولكن سموه باسمه فإن إيلياء امرأة بَنَت المدينة”.. وعن أبي ذر قال: قلتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع على وجه الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي: قال: البيت المقدس وبينهما أربعون سنة. وروي عن أبي بن كعب قال: أوحى الله تعالى إلى داود -عليه السلام– ابن لي بيتًا. قال: يا رب وأين من الأرض؟ قال: حيث ترى الملك شاهرًا سيفه، فرأى داود الملك واقفًا وبيده سيف، وتأكد الخبر في بعض كتب اليهود بأن داود وسليمان بنيا بيت المقدس، ثم أخربته الجبابرة بعد ذلك فاجتاز به شعيا، وقيل عزير عليهما السلام، فرآه خرابًا، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام ثم بعثه كما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم، ثم بناه ملك من ملوك فارس يقال له كوشك[30] ذلك أن مدينة بيت المقدس تعرضت للتخريب من قبل “نبوخذ نصر”، وطرد بني إسرائيل مدة أربعمئة وأربع وخمسين سنة، وظل بيت المقدس خرابًا إلى أن بناها أحد ملوك الفرس عندما احتل المدينة ويدعى كوشك بن كوشك بن أخورش[31].
الثابت مما سبق أن باني المدينة المقدسة هو داود وابنه سليمان عليهما السلام، أما إيلياء المذكورة، فربما تكون بنَت بعض أجزاء المدينة أو دورًا أو قصورًا فيها، فنسبت المدينة إليها في بعض المراجع التاريخية، كما نرى أن أحد ملوك الفرس “كوشك” قد بنى المدينة ثانية بعدما هدمها الجبابرة، وهذا دليل على تعاقب البناة عليها، فما يجري على سائر المدن يجري عليها من بناء وتجديد، وتخريب وهدم.
وقد قال أبو مالك القرظي في كتاب اليهود الذي لم يغير: إن الله تعالى خلق الأرض فنظر إليها، وقال: أنا واطئ على بقعتك، فشمخت الجبال وتواضعت الصخرة، يقصد صخرة بيت المقدس فشكر الله لها. وقال: هذا مقامي وموضع ميزاني وجنتي وناري ومحشر خلقي وأنا ديان يوم الدين[32].
يتفق الاستشهاد السابق من بعض كتب اليهود، مع ما الرؤية الإسلامية من أن المدينة المقدسة هي مكان المحشر، ومنها سيكون المنشر.
وقد حظيت المدينة بشرف لم تنله أي مدينة فتحها المسلمون، إذ لم يتسلمها القائد الفاتح أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، بل أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يحضر بنفسه ليتسلمها، وحضر الخليفة وأعطى بنفسه للبطريرك صفر وينوس العهد العمري الشهير يوم الخميس 20 من ربيع الأول عام 15هـ، الموافق 2 من مايو آيار من عام 636م. وقد سلك عمر رضي الله عنه مسلكًا فريدًا، إذ ذهب إلى مقدسات اليهود المهدمة منذ قرون في المدينة، وقد جعلها الروم مجمعًا للقاذورات والقمامة، فبسط رداءه، وجعل يكنس الزبل والمسلمون معه يفعلون[33].
وجاء في العهد العمري لسكان المدينة:
“هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم ولصلبانهم ومقيمها وبريها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم…”[34].
وشهد على العهد: خالد بن الوليد، معاوية بن أبي سفيان، عمرو بن العاص، عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعًا وهم ثلة من كبار الصحابة القادة الفاتحين العظام.
وهذا الموقف من الخليفة الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن الإسلام والمسلمين يحسنون معاملة غيرهم، فقد أمّن عمر النصارى في كنائسهم ومقدساتهم، وخاصة كنيسة القيامة، ثم أعاد المكانة لمقدسات اليهود، برغم طردهم منها، ويأتي هذا مصداقًا للآية الكريمة: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
تاريخ بيت المقدس وعلاقته ببناء الأقصى والهيكل:
كان أول من استقر ببيت المقدس هم الكنعانيون، وهم قبيلة عربية خرجت من الجزيرة العربية، وكان ذلك منذ أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وقد حطت رحالها حول نبع غزير المياه، فوق أحد جبال القدس، وكان الموقع المختار جيدا، فالمنبع يقع على جبل عال، مما يوفر الحماية والأمن لساكنيه، حيث تصعب الإغارة عليه، وقد وجدت نصوص مصرية قديمة يعود تاريخها إلى ألفي سنة قبل الميلاد وهي نصوص “تل العمارنة”[35] التي وجدت في صعيد مصر، وورد فيها أن الكنعانيين وهم من العرب الذين هاجروا من جزيرة العرب واستوطنوا القدس، وقد نال الكنعانيين هذه التسميةُ نسبةً إلى أرض فلسطين، فلفظة “كنعان” تعني الأرض المنخفضة. وقد أنشأوا مدنًا عدة منها: عكا وغزة وأسدود، و”اليبوسيون الكنعانيون” أنشأوا مدينة القدس، وقد سميت على اسمهم “إيبوس”، ثم تغيرت إلى أورشاليم[36].

والثابت تاريخيًّا: أن أسماء “صهيون”، “يروشالايم” أو “أورشاليم”، القدس، ليست أسماء عبرية أو يهودية، وإنما هي أسماء كنعانية عرفت بها المدينة قبل أن يدخلها الإسرائيليون[37]. كما أن اسم “أورشليم” له تأويلات عديدة تبتعد تمامًا عما يظنه البعض من أنها ذات جذور إسرائيلية، فالبعض ينسبه إلى الإله الوثني “شالم” الذي كان يعبده اليبوسيون وقتئذ[38]، والبعض الآخر يترجمه: “أور” بمعنى موضع أو مدينة، والثاني “شالم” أو “سالم” بمعنى السلام، وتكون ترجمتها مدينة السلام أو مدينة السلامة[39]. وإن كان هناك نفي لوجود إله قديم باسم “شالم” لدى الكنعانيين، أو وجود معبد يحمل هذا الاسم في القدس أو نواحيها، والراجح التسمية الثانية فقد كانت القدس محطة قوافل، فكأنها اكتسبت تسمية مدينة السلامة لكونها تقع في طريق القوافل، بوصفها محطة استراحة وأمان وتزويد بالمؤن[40].
وقد جاء بنو إسرائيل إلى فلسطين من شرق الأردن بقيادة ملكهم “طالوت”، وقُتِل طالوت في الحرب بينه وبين بني إسرائيل ثم تولى “داوود” عليه السلام المُلك، ونجح في توحيد الإسرائيليين مرة أخرى، وقضى على الخلافات والحروب بينهم، واستطاع هزيمة اليبوسيين الكنعانيين، ومن ثم تأسيس مملكة إسرائيل، واتخذ “أورشاليم” عاصمة لمملكته 1013 – 973 قبل الميلاد، وقد وسع ملكه وقهر الآراميين في دمشق، ثم تولى النبي سليمان بن داوود عليه السلام، الذي أسس هيكل سليمان، وبعد موت سليمان عام 935 قبل الميلاد، انقسمت المملكة على نفسها؛ فقامت يهوذا في القدس، ومملكة إسرائيل في السامرة، ونشبت الخلافات بين المملكتين[41].
وبالنظر إلى تاريخ القدس كما دلت الحفريات نجد أنها تكونت على تل “الظهور” أو تل “أوفل” المطل على قرية “سلوان” التي تقع إلى الجنوب الشرقي للحرم القدسي الشريف، وكانت مساحتها –قديما– تقدر بحوالي 55 دونمًا، تسقيها عين أم الدرج، وبمرور الزمن أخذت المدينة تتوسع شيئًا فشيئًا ناحية مرتفع بيت الزيتون “بزيتا” في الشمال الشرقي، ومرتفع ساحة الحرم “مدريا” في الشرق، ومرتفع “صهيون” في الجنوب الغربي، وهذه المرتفعات اليوم تقع كلها داخل السور أو ما يعرف بالبلدة القديمة ومساحتها حوالي كيلومتر واحد، وهي التي توجد فيها المقدسات الخاصة بالأديان السماوية الثلاثة[42]. والقدس القديمة أو العتيقة مساحتها 8.71 دونما، وطول سورها 4.20 كيلومتر، وتقوم على أربعة جبال هي: الوريا وصهيون وأكرا وبزيتا، أما الحرم القدسي فيقع في الجنوب الشرقي للقدس القديمة فوق جبال الموريا[43].
مدينة بيت المقدس قديمًا وحديثًا:
يصف ياقوت الحموي ما شاهده في بيت المقدس في أثناء تطوافه لجمع مادة كتابه، فيقرر أن أرضها وضياعها وقراها كلها جبال شامخة، وليس حولها ولا بالقرب منها أرض واطئة، والناس تزرع فيها على الجبال مستخدمين الفؤوس لا الدواب في الحرث. أما المدينة نفسها: فهي على فضاء من الأرض وسط هذه الجبال المحيطة بها، وأرضها حجارة مرصوفة بالأحجار مأخوذة من الجبال التي هي عليها، وفيها الكثير من الأسواق والعمارات الحسنة [44].
وفي المدينة مغاور كثيرة ومواضع يطول عددها، مما يزار ويتبرك به، ويشرب أهل المدينة من ماء المطر، ليس فيها دار إلا وفيها صهريج خزان ولكن مياهه غير نظيفة أحيانا، وتمتاز دروب المدينة أنها من الأحجار، مما يحفظ نظافة المياه بدرجة كبيرة، فليس فيها الدنس الكثير. وفيها ثلاث برك بحيرات صغيرة للماء العذب، وهي: بركة بني إسرائيل، وبركة سليمان عليه السلام، وبركة عياض عليها حمامات أهل المدينة، والمقصود بالحمامات: هي الحمامات العامة التي كان يرتادها الناس للاستحمام، والتطيب، وهي غير حمامات البيوت، وما زالت بعض المدن الإسلامية توجد بها هذه الحمامات العامة[45].
أما مناخ بيت المقدس، فيصفه أبو عبد الله البشاري المقدسي: “هي متوسطة الحر والبرد،، قلّ ما يقع فيها ثلج. ويروي ياقوت الحموي: سألني القاضي أبو القاسم عن الهواء بها، فقلت: سجسج لا حر ولا برد أي معتدل. فقال: هذه صفة الجنة. قلت: بنيانهم حجر، لا ترى أحسن منه، ولا أنفس منه ولا أعف من أهلها ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها”[46].
وقد اهتم المسلمون منذ القدم بالمدينة، فأوقفوا لها الأوقاف مثل الأراضي الزراعية، والعقارات في مختلف أنحاء الشام، للإنفاق على الأقصى خاصة وعلى المدينة ومدارسها عامة، وقد بلغ عدد المدارس بالوقف 56 مدرسة، ناهيك عن الأسبلة والأروقة والقباب والصهاريج والزوايا والتكايا والمآذن وغيرها، وقد وصل عدد مساجدها 34 مسجدًا، مما جعلها ذات طابع إسلامي مميز[47].
أما القدس حديثًا: فهي مدينتان: القدس القديمة التي يحيط بها السور الكبير القديم، وفيها كل المقدسات: الصخرة المشرفة، والمسجد الأقصى، وكنيسة القيامة. وهي ما تسمى بالقدس الشرقية التي سقطت تحت الاحتلال الصهيوني في عام 1967م.
والقدس الجديدة: خارج السور القديم، وتتميز بالعمران الحديث، والأحياء الجديدة والشوارع المشجرة، والأبنية الأنيقة، والحدائق المنسقة، وهي ما تسمى بالقدس الغربية التي سقطت في العام 1948م. وقد بنيت لاستيعاب زيادة السكان والهجرات اليهودية المتتابعة.
وهناك تسميات مستحدثة يطلقها الصهاينة على المدينة المقدسة وهي: “القدس الموحدة” للدلالة على القدسين معًا، الشرقية والغربية، ويصرون على أن تكون العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل [48]، وهي تعني السيطرة التامة على المقدسات الإسلامية، وعدم قبول أي شكل من أشكال التنازع حول هذه السيادة مستقبلا، وتأكد هذا بقرار من الكنيست الإسرائيلي أن يجعل القدس “أورشليم” عاصمة أبدية للدولة، وفقًا لقناعاتهم الصهيونية المروّجة، وهذه التسمية تقطع الطريق على أي مفاوضات مستقبلية بشأن المدينة، ويتم تسويقها في الخرائط العالمية وفقا لهذه التسمية أو الاكتفاء بلفظة “القدس” فقط.
وهناك ما يسمى “القدس الكبرى” وهي أشد خبثًا، ويقصد بها القدس الموسعة التي يحاول الصهاينة استيعاب العرب المقيمين في القدس حسب نسبتهم القليلة، في ضوء الأغلبية اليهودية في المدينة “الشرقية”، كما يستهدف مشروع القدس الكبرى تطويق الأحياء العربية في المدينة القديمة وفصلها عن الأحياء العربية خارج السور مما يسبب صعوبة كبيرة للسكان تدفعهم إلى الهجرة خارج مدينتهم[49]. كما أن لهذه التسمية بعدًا آخر يتصل بالمفاوضات الجارية بين العرب والصهاينة، إذ يقترح اليهود أن يتم إنشاء قدس جديدة في منطقة جبلية، متاخمة للقدس، وتقع ضمن القدس الكبرى، ويمكن أن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية المزعومة، على أن تكون بمنأى عن المقدسات الإسلامية، وعن اليهود المقيمين، وكل ما فيها أنها تحمل تسمية القدس فقط وهكذا تتداخل التسميات لصالح مخطط واضح المعالم.
تطور بناء الأقصى:
ترجع بدايات بناء المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أمر عند زيارته لبيت المقدس أن يتم بناء مسجد في الحرم القدسي غير بعيد عن موضع الصخرة المشرفة، التي بنيت عليها القبة عام 72هـ / 691م، وقد واصل الوليد بن عبد الملك البناء خلال حكمه 86- 96هـ / 705-714م، وإليه يرجع الفضل في إنشاء المسجد الأقصى في مكانه الحالي ولم يبق من بناء الوليد للأقصى إلا عقود قائمة على أعمدة من الرخام على يمين القبة الصغيرة عند مدخل الأقصى الحالي وفي يساره [50]. وقد وقع زلزال سنة 130هـ / 747 م أثّر بشدة في بناء الأقصى، فأعاد بناءه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور سنة 140 هـ بعد أن اقتلع الذهب من أبوابه لينفق عليه[51].
ثم يأتي الخليفة العباسي “المهدي” الذي قام بتجديد بنائه، فنقص من طوله وزاد في عرضه، عام 163هـ وهي تجديدات أعطت للمسجد صورته الفخمة الحالية [52].
في مطلع القرن الثالث الهجري، في عهد الخليفة العباسي “عبد الله المأمون”، تهدم الأقصى في زلزال، فقرر المأمون إعادة بنائه، وقد عهد إلى أمراء الأطراف [الأمصار والبلدان الإسلامية] فبنى كل أمير منهم رواقًا خاصًّا به، وتولى مسؤولية البناء عبد الله بن طاهر سنة 210هـ وجاء البناء الجديد مكونا من 26 رواقًا، تشرع كلها من جدار القبلة إلى الصحن، أما أبواب المسجد فكانت سبعة أبواب، أقدمها الباب الأوسط في البناء، وكان الباب الرئيس ملبسا بالنحاس. ثم تعرض الأقصى إلى زلزال سنة 424هـ / 1033م فقامت الخلافة الفاطمية في مصر بإعادة بنائه وتجديده. إلا أن الأقصى تعرض للتخريب في الحروب الصليبية، ولكن بقى الهيكل العام له: السقف والأعمدة، وسبعة أروقة متعامدة على القبلة، وجوف بيت الصلاة، وقبتان: قبة صغيرة فوق المسجد مباشرة، وقبة أخرى فوق البلاطة المؤدية للمحراب.
وما زال المسجد يحتفظ بهذه الهيئة؛ فقد رُمم وأعيد بناء الكثير من أجزائه أيام الدولة المملوكية، والخلافة العثمانية [53].
وصف الأقصى قديمًا:
يقرر ياقوت الحموي في مصنفه العظيم “معجم البلدان” صفة بناء الأقصى المستقرة وفقًا لما رآه في زمنه؛ فيشير إلى أن المسجد الأقصى يقع في طرف المدينة الشرقي نحو القبلة، وأساسه من عمل داوود -عليه السلام-، وهو طويل عريض، وطوله أكثر من عرضه. وفي القبلة، المصلى الذي يخطب فيه الإمام للجمعة، وهو على غاية الحسن والإحكام مبني على أعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منها. وفي وسط صحن هذا الموضع مصطبة عظيمة في ارتفاع نحو خمسة أذرع كبيرة يصعد إليها الناس من عدة مواضع بدرج، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة، على أعمدة رخام مسقفة برصاص منمّقة من الخارج والداخل بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون قائم ومسطح، وفي وسط هذا الرخام قبة أخرى وهي قبة الصخرة التي تزار وعلى طرفها أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم وتحتها مغارة ينزل إليها بدرج سلالم من الرخام، ولهذه القبة أربعة أبواب وفي شرقيها برأسها قبة أخرى على أعمدة مكشوفة حسنة مليحة يقولون إنها قبة السلسلة سلسلة النبي داود عليه السلام، ويقال عنها أيضًا قبة المعراج [54].
وطول الحجر في المسجد الأقصى عشرة أذرع وأقل، منقوشة وصلبة، وقد قام الخليفة عبد الملك بن مروان ببناء كبير على الحجر. وقد جاء البناء مؤلفًا من حجارة صغيرة حسنة، ولكن حدث زلزال أيام بني العباس الخلافة العباسية، أسقط الحجر بعيدًا حول المحراب، فأراد الخليفة أن يرده إلى موضعه، ولكن أنبأه من حوله أن هذا صعب جدًّا، لطول الحجر وثقله، فكتب الخليفة العباسي وقتئذ إلى ولاته في الأمصار، وإلى قواده، يأمرهم أن يبني كل واحد منهم رواقًا، فقاموا ببناء أروقة كانت أشد وأحسن صناعة، وبقي الحجر في موضعه.
وللجزء المغطى من المسجد ستة وعشرون بابًا، وفي مشرق هذا الجزء أحد عشر بابًا، وخمسة عشر رواقًا مبنية على أعمدة رخام. وفي مؤخرة المسجد أروقة من الحجارة. ويلاحظ أن سقوف المسجد كلها ملبسة من الرصاص المشقق، والجزء المؤخر من المسجد مرصوف بالفسيفساء الكبار. وصحن المسجد كله مبلط بالحجارة.
وفي وسط رواق المسجد توجد دكة حجرية مربعة يصعد إليها من الجهات الأربع عبر سلالم واسعة المساحة. وفي هذه الدكة أربع قباب: قبة السلسلة وقبة المعراج وقبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الثلاث الصغار ملبسة بالرصاص على أعمدة مكشوفة، وفي وسط الدكة قبة الصخرة على بيت له ثمانية جدران، وأربعة أبواب.
وللمسجد من خارجه ثلاثة عشر موضعًا، موزعة على عشرين بابًا، منها: باب الحطة وباب النبي صلى الله عليه وسلم وباب محراب مريم، وباب الرحمة وباب الأسباط[55].
ويقرر ياقوت عن المسجد الأقصى: “ومن أعظم محاسنه أنه إذا جلس إنسان فيه في أي موضع منه، يرى أن ذلك الموضع هو أحسن المواضع وأشرحها”، ويذكر في ذلك قول الشاعر:
أهيمُ بقاع القدس ما هبّت الصَّبا فتلك رباع الأنس في زمن الصِّبا
وما زلتُ في شوقي إليها مواصلا سلامي على تلك المعاهد والربى[56]
وصف الأقصى حديثًا:
يبلغ طول المسجد الأقصى من الداخل 80 مترًا، وعرضه 55 مترًا، ويضم سبعة أروقة، رواق أوسط، وثلاثة أروقة من جهة الشرق، وثلاثة من جهة الغرب، وترتفع هذه الأروقة على 53 عمودًا من الرخام، و49 سارية من الحجارة، وفي صدر المسجد قبة كما أن له أحد عشر بابًا، سبعة منها في الشمال وباب في الشرق واثنان في الغرب وواحد من الجنوب. كما يوجد في ساحة الأقصى الشريف خمسة وعشرون بئرًا للمياه العذبة، ثمانية منها في صحن الصخرة المشرفة، وسبعة عشر بئرًا في فناء الأقصى، كما توجد بركة للوضوء، والعديد من الأسبلة مواطن شرب الماء العذب وهي من الآثار الإسلامية القيمة منها: سبيل “قايتباي” من سلاطين المماليك، وهو مسقف بقبة حجرية رائعة، تلفت نظر كل من يزورها. وكذلك هناك أسبلة تبرع بها عدد من المحسنين الخيرين قديمًا مثل: سبيل “البديري”، وسبيل “قاسم باشا”[57].
أما الأروقة الحالية فأهمها الرواق المحاذي لباب شرف الأنبياء، والرواق الممتد من باب السلسلة إلى باب المغاربة، كما يوجد به آثار مزولتين شمسيتين ساعتين لمعرفة الوقت[58].

ــــــــــــــــــــ


[1] لسان العرب، ابن منظور، إعداد وتصنيف: يوسف خياط، نديم مرعشلي، دار صادر، بيروت، دون تاريخ، دون طبعة، مجلد 3، ص106. وأيضا: أساس البلاغة، الزمخشري، دار صادر، بيروت، 1385هـ، 1965م، ص511. والمعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، دون تاريخ، الجزء الثاني، ص 747.
[2] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ، 1993م، مج 5، ص139.
[3] إتحاف الأخصّا بفضائل المسجد الأقصى، أبو عبد الله محمد بن شهاب الدين السيوطي، تحقيق: د. أحمد رمضان أحمد، القسم الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982م، ص93.
[4] تفسير القرطبي، م س، مج 5، ص134.
[5] جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري، دار الحديث، القاهرة، 1407هـ، 1987م، مج 8 ، ص2.
[6] تفسير القرطبي ، ص135.
[7] انظر: تفسير الطبري، مج 8، ص13، 14.
[8] تفسير القرطبي، م س، مج، ص139. ويروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: “يقول الله تعالى: يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي”.
[9] السابق، ص139.
[10] في الإسراء والمعراج ثلاثة أقوال: الأول بروحه ولم يفارق مضجعه وكانت رؤيا رأى فيها الحقائق ورؤيا الأنبياء حق. والثاني: قالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، والثالث: ما عليه معظم السلف والمسلمين من أنه كان بالجسد والروح معا بدليل مفتتح سورة الإسراء، فدلالة الآية تشمل الروح والجسد. انظر: تفسير القرطبي، م س، مج 8، ص135-137.
[11] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت، ط5، 1386هـ، 1967م، ج5، ص302.
[12] السيرة النبوية، ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، د ط، 1403هـ، 1983م، مج 2، ص93.
[13] راجع: تفسير القرطبي، مج 5، ص138.
[14] السيرة النبوية لابن كثير، مج 2، ص94، 95، 96، 99. وانظر أيضا: السيرة النبوية، ابن هشام، مؤسسة علوم القرآن، بيروت دمشق، تحقيق: مصطفى السقا، إبراهيم الإبياري، عبد الحفيظ شلبي، د ط، د ت، القسم الأول، ص396 – 398.
[15] تفسير الطبري، مج 8، ص3.
[16] السيرة النبوية لابن كثير، مج 2، ص97.
[17] السيرة النبوية لابن هشام، القسم الأول، ص 396.
[18] انظر: السيرة النبوية لابن كثير، ص97، والمرجع السابق، ص 403.
[19] في ظلال القرآن، ج5، ص304.
[20] معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، دار بيروت، 1376هـ، 1957م، ج4، ص172.
[21] إتحاف الأخصّا بفضائل المسجد الأقصى، م س، ص94.
[22] المرجع السابق، ص94.
[23] راجع في التفاسير السابقة: إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى، ص96، 97.
[24] راجع تفصيلا: إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى، م س، ص102-104، وانظر أيضا: معجم البلدان، 166.
[25] انظر: مكانة القدس في الإسلام، الشيخ عبد الحميد السايح، منشورات لجنة القدس، الطبعة الثانية، 1985م، ص7 وما بعدها.
[26] مسند الإمام أحمد، تحقيق: أحمد محمد شاكر، نشر: دار المعارف، القاهرة، 1369هـ، 1950م، ج3، ص 1426.
[27] صحيح مسلم، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار الآفاق العربية، القاهرة، 1426هـ، 2005م، كتاب الحج ص559، رقم 511، 513.
[28] صحيح مسلم، ج2، كتاب الحج، رقم 415.
[29] رواه أحمد في مسنده 23733 .
[30] معجم البلدان، ص167.
[31] إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى، ص125، 126، في خبر عن البغوي.
[32] معجم البلدان، ص167.
[33] فلسطين والأقصى: الوديعة والميراث، خيري أحمد مكاوي، الطبعة الأولى، 1417هـ، 1997م، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، ص48.
[34] فلسطين بالخرائط والوثائق، بهاء فاروق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2002، ص56، وفيه صورة طبق الأصل للوثيقة العمرية.
[35] نصوص تل العمارنة أو نصوص اللعنة، عبارة عن شذرات من الفخار عليها نقوش باللغة المصرية القديمة الهيراطيقية تتضمن أسماء البلاد والمدن والحكام الذين كانوا يعادون مصر، وكانت العادة آنذاك هي كتابة أسماء الأعداء على أواني يتم تحطيمها في طقوس سحرية، وقد ضمت أسماء 19 مدينة كنعانية، منها “روشاليموم”. وتدل أسماء أمراء أورشليم في تلك النصوص المكتشفة على أن أهل أورشليم ذوو أصول سامية غربية. انظر للمزيد في هذا: القدس مدينة واحدة وثلاث عقائد، كاترين آرمسترونج، ترجمة د. فاطمة نصر، ود. محمد عناني، إصدار كتاب “سطور”، القاهرة، 1998، ص27، 28
[36] راجع: فلسطين بالخرائط والوثائق، م س،ص49، 50.
[37] أورشليم القدس في الفكر الديني الإسرائيلي، د. محمد جلاء إدريس، مركز الإعلام العربي، القاهرة، ط1، 2001، ص19.
[38] القدس ومعاركنا الكبرى، محمد صبيح، منشورات: دار الشعب، القاهرة، 1971م، ص124.
[39] القدس عربية إسلامية، سيد فرج، على نفقة المؤلف، ط2،القاهرة، 1995م، ص31
[40] انظر: أورشليم القدس في الفكر الديني الإسرائيلي، م س، ص23، 24.
[41] فلسطين بالخرائط والوثائق، ص51.
[42] السابق، ص246.
[43] السابق، ص246، 247.
[44] راجع: معجم البلدان، مرجع سابق، ص168 بتصرف .
[45] انظر تفصيلا: إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى، ص211 – 213.
[46] معجم البلدان، ص168.
[47] مكانة القدس في الإسلام، الشيخ عبد الحميد السايح، مرجع سابق، ص11.
[48] فلسطين بالخرائط والوثائق، مرجع سابق، ص247.
[49] السابق، ص247.
[50] المساجد، د. حسين مؤنس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1981م، ص186.
[51] السابق، ص186.
[52] السابق، ص187.
[53] انظر: المساجد، ص187.
[54] السابق، ص168، مع تصرف في العرض.
[55] انظر: معجم البلدان، م س، ص170 بتصرف وشرح.
[56] معجم البلدان، م س، ص171 .
[57] فلسطين بالخرائط والوثائق، مرجع سابق، ص249.
[58] السابق، ص250.

نقلاً عن موقع الألوكة