خاص هيئة علماء فلسطين
15/5/2025
د. محمد همام سعيد عضو المكتب التنفيذي في هيئة علماء فلسطين
بسم الله الرحمن الرحيم

15/5/2025
د. محمد همام سعيد عضو المكتب التنفيذي في هيئة علماء فلسطين
الأضحية من شعائر الله عز وجل، ومن أعظم العبادات وأفضل القربات في يوم النحر، وقد جعلها ربنا عز وجل منسكاً من مناسك هذه الأمة، قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (الحج: 34).
وقد ارتبط تشريع الأضحية بالتضحية والابتلاء والثبات والفداء وذلك فيما بينه ربنا عز وجل في كتابه العظيم في قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام قال سبحانه: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات: 107).
وقد قدم أهلنا المجاهدون الصامدون الصابرون في غزة هاشم أعظم صور التضحية والثبات على البلاء والفداء في سبيل الله اقتداء بخليلي الله إبراهيم، ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، وهم ينوبون عن الأمة في معركتها مع أشد أعدائها ويقفون في خط الدفاع الأول سداً منيعاً أمام أطماع الصهاينة المجرمين، ولذلك فأقل ما يجب أن يقدم لهم من أمة الإسلام إمدادهم بالمال والطعام والدواء والمأوى.
ومن هذا القليل تقديم الأضاحي لهم، وفي هذا جمع بين شعيرتين عظيمتين؛ شعيرة الأضحية وشعيرة الجهاد بالمال في سبيل الله.
وقد أمرنا ربنا عز وجل بإطعام البائس الفقير والقانع والمعتر من هذه الأضاحي، وهم أولى من أي بائس وأي فقير وأي قانع وأي معتر؛ لأن بأسهم وفقرهم لم يكن إلا في سبيل الله، ولم يكن إلا بسبب انتصارهم لدين الله وأوليائه ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال سبحانه: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28)؛ والبائس الفقير: المضطر المتعفف الذي ظهر عليه البؤس، وهذا هو حال أهل غزة العزة اليوم فهم العباد أولو البأس الشديد، لكنهم أصيبوا بالبؤس الشديد أيضاً لخذلان الأمة لهم وتركهم يواجهون الصهاينة وأحلافهم من الدول العظمى وغيرها.
وقال سبحانه: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (الحج: 36)؛ والقانع: السائل المتعفف، والمعتر: الذي يتعرض للناس ولا يسألهم.
وتُعرَض صور تجويع أهل غزة واحتياجهم علينا عبر الشاشات ليل نهار، فأين أمة الإسلام منهم؟ وأين نحن من الموقف بين يدي الله تعالى، عندما يسأل كل منا: ماذا قدم لهؤلاء المجاهدين الصامدين الصابرين؟
وقد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل أن يُطعموا الدافة، وهم قوم من فقراء البادية، وردوا المدينة عشية عيد الأضحى.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا بما بقي»، فلما كان بعد ذلك قال: «إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا» (1).
قال الإمام الشافعي في تعليقه على هذا الحديث: «أُحبّ إن كانت في الناس مخمصة ألا يدخر أحد من أضحيته، ولا من هديه أكثر من ثلاث؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الدافة، فإن ترك رجل أن يطعم من هدي تطوع أو أضحية فقد أساء، وليس عليه أن يعود للضحية، وعليه أن يطعم إذ جاءه قانع أو معتر أو بائس فقير شيئاً؛ ليكون عوضاً مما منع، وإن كان في غير أيام الأضحى (2).
ونحن نرى أهلنا في غزة وقد أصابتهم المجاعة وأطبق عليهم الحصار ودمر العدو بيوتهم وخيامهم، وكرر عليهم التهجير وقتّل أطفالهم ونساءهم ورجالهم، كل ذلك بسبب مقاومتهم لهذا العدو المجرم، فهم أولى وأحق بالإمداد والإطعام من إطعام الفقراء والمساكين.
فلنجعل أضحيتنا لأهل غزة المضحين الصابرين المحتسبين، فأضحيتنا لهم تبرئنا وتُجزئ عنا، وتجتمع فيها سُنة الأضحية وأجر التضحية والجهاد في سبيل الله، وقد أمرنا ربنا عز وجل بتعظيم شعائره وجعل ذلك علامة على تقوى القلوب، قال سبحانه: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: تعظيمها: استسمانها واستعظامها واستحسانها (3)؛ لأن ذلك أعظم لأجرها وأكثر لنفعها، فمن تعظيم شعائر الله أن يختار المضحي الأفضل والأحسن.
وما يمكن أن يصل لأهلنا في غزة بشكل أسرع، فإذا أمكن توكيل جهة للقيام بالأضحية في غزة فهذا أولى وأفضل وأعظم أجراً للمضحي، وإن لم تتوفر فكلما كانت أقرب وأسرع وصولاً إليهم وأكثر لحماً ونفعاً فهذا أفضل، ويكره للمضحي أن يبحث عن الأضحية الأقل ثمناً، بل الأصل أن ينفق في الأضحية ما يساوي ثمن الأضحية في بلده أو أكثر من ذلك.
والأضحية وإن كانت من شعائر هذا الدين إلا أنها من السنن المؤكدة عند جمهور الفقهاء ومن الواجبات عند الحنفية، فهي أفضل من صدقة التطوع عند جمهور أهل العلم، والجهاد بالمال في سبيل الله وتقديمه للمقاومين وأهليهم أولى وأعظم فضلاً وأجراً من الأضحية لأنه فرض قطعي مجمع عليه.
ومن لم يستطع تقديم الأضحية لهم فالواجب عليه أن يخرج من ماله ما يستطيع، وذلك من الجهاد في سبيل الله المتعين المفروض على كل مسلم يملك شيئاً من المال، وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن سويد بن غفلة قال: سمعت بلالاً بن رباح يقول: «لأن أتصدق بثمنها -أي الأضحية- على يتيم أو مُغَبَّر أحب إليَّ من أن أضحي بها» (4).
**********************________________________
(1) صحيح مسلم، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام (1971).
(2) اختلاف الحديث (8/ 643).
(3) تفسير الطبري (15/ 540).
(4) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (4/ 385).
*****************************
نقلاً عن:
