بقلم: د. محمد العبدة

هناك أسباب كثيرة -بخلاف الأسباب الشرعية المشهورة- تدعونا للاهتمام بالخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، منها: ‏اجتهاداته الكثيرة في قضايا مهمة ما تزال حية إلى اليوم مثل قضايا المال العام وكيف يتصرف فيه، كما أن اهتماماته ‏بأمور المسلمين الحياتية المعاشية، واهتمامه بالبنية التحتية للدولة -كما يعبر عنها اليوم- تلفت النظر ونحن بحاجة إلى ‏إعادة قراءتها. ‏

‏ ‏وقد ضرب الله سبحانه لنا مثلاً في القرآن الكريم بالحاكم العادل القوي (ذي القرنين)، الذي عنده علم أيضًا بعمارة ‏الأرض، ويدافع عن المظلومين، ويعاقب المجرمين، آيات بينات من سورة الكهف تتلى على مر الأيام والليالي؛ فإعادة ‏سيرة عمر وخاصة في إنجازاته الحضارية ليس من باب التفاخر بالماضي ولكن لملاحظة التقصير في الضروريات، ‏والاقتداء بشخصية عظيمة كعمر، وهو من الحكام العادلين المقتدى بهم. ‏

‏ ‏ومن أسباب الاهتمام بعمر ما ظهر أخيرًا من الإيذاء للصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة لعمر، وقد جاء في الأثر (إذا ‏لعن آخر هذه الأمة أوَّلها، فمن كان عنده علم فليظهره). وما سمعنا في الماضي والحاضر أن أمة تهدم تاريخها وتشوه ‏تاريخها وتتعمد تحطيم عظمائها إلا هذه الفئة التي تتعمد نسف التاريخ الإسلامي كله. ولكن المنصفين من غير المسلمين ‏يعظمون عمر ويعرفون قدره بين القادة والعباقرة، يقول الكاتب اللبناني مارون عبود: “لا أحد يستطيع أن يتخيل ‏النهضة العربية دون أن تمر أمامه صورة أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية وهارون الرشيد… “. ‏

‏ ‏وإذا أبعدنا هذا الجيل الذي رباه محمد ‏ ، كيف سيكون أمر الدين؟ بل ما الحياة إن خلت من مثل أعلى والصحابة هم ‏المثل الأعلى؛ فقد تميزوا بصفات لم تكن لغيرهم، فهم الذين نقلوا الوحي السماوي كله، فلم يسقط منه حرف، ونقلوا ‏السنة النبوية فحفظوا بذلك الأصول النظرية للإسلام، وحققوا عالمية الرسالة عندما انساحوا في الأرض ينشرون ‏الإسلام. إنه جيل عظيم بكل معاني العظمة، وعندما نصحب هذا الجيل فإنها نعمة كبيرة. يقول الإمام ولي الله الدهلوي: ‏‏”إن كل من يقرأ القرآن من المسلمين في يومنا هذا مدين في ذلك للفاروق العظيم”؛ لأن عمر هو الذي اقترح على أبي ‏بكر جمع القرآن. ‏

‏ ‏

والذين يؤذون الصحابة إنما يؤذون النبي ‏ ؛ فهو الذي رباهم، وتوفي ‏ وهو عنهم راضٍ. ونحن ندعو في كل صلاة ‏‏{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]، وأبو بكر من الذين أنعم الله عليهم كما في الآية ‏‏{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. وأبو بكر  من الصديقين، ‏وإذا كان جيل الصحابة كما يصوره الحاقدون، إذن فعلى الإسلام السلام، ولكن الإسلام باقٍ -والحمد لله- وظاهر إن شاء ‏الله، ونحن نُجلُّ الصحابة ونحبهم، بل هذا التقدير جزء من العقيدة الإسلامية. ‏

‏ ‏

عمر رضي الله عنه المؤسس

عندما يُذكر عمر بن الخطاب  يتحدث الناس عن إسلامه الذي كان فتحًا، وعن عدله الذي بهر العقول، وعن تقواه ‏وخشيته وتقشفه في ملبسه ومأكله[1]، ويذكرون عمر الفاتح الذي فتحت في عهده بلاد الشام بأكملها والعراق وفارس ‏وخراسان ومصر.. ويذكرون عمر المجتهد الفقيه، وقد وصفه الرسول ‏ بالعبقرية فقال: “لم أرَ عبقريًّا يفري فريه”، ‏ووصفه بأنه مُحدَّث (ملهم). ‏

‏ ‏

لن نتحدث عن شخصية عمر الذي يداوي إبل الصدقة بيده، ويمشي في السوق وحده، ومع ذلك يصل من هيبته أن ‏القادة الكبار يفرقون منه، ولكن سنتحدث عن شخصية عمر المؤسس للدول، المخطط للعمران، وعن اهتماماته ‏الحضارية، الاجتماعية والاقتصادية، وهو جانب قد يغيب عن بعض الناس، وهو جانب لم يُشتهر به كما اشتهر في ‏الجوانب الأخرى، كيف كان يشغله أمور الناس المعاشية، وكيف كان يفكر فيما يُسمى اليوم (البنية التحتية). وهذا ‏الجانب لا أقول تغفل عنه الدول فقط -أو لا تريد تنفيذه- ولكن تغفل عنه المؤسسات الإسلامية والجمعيات الإسلامية، ‏فأين هؤلاء من اهتمامه بالنواحي الصحية للمجتمع الإسلامي وقد وسعت سياسته كل ما جَدَّ وكل ما تطلبته حياة الناس؟! ‏

‏ ‏

القضاء

لا تنتظم أمور الناس إذا لم يكن هناك قضاء مستقل، وقضاء في أعلى درجات النزاهة والتقوى والعلم والخبرة. وإن أُولى ‏مقدمات التقدم الحضاري هو أن تقام إدارة للعدل مستقلة عن إدارة الحكم، ويُقال: “أرني قوانين أمة، أدلك على حظها في ‏الرقي أو الانحطاط”. وقد قام عمر بفصل القضاء عن إدارة الحكم، وأقام المحاكم في كل ولاية، وعيّن القضاة حسب ‏شروط معينة، وكان يختار القضاة بعد أن يختبرهم في علمهم وذكائهم، ورسالته في القضاء إلى الصحابي أبي موسى ‏الأشعري تعتبر وثيقة قضائية بالغة الأهمية، وهذا نصها: ‏

‏ ‏

‏”أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع حق لا نفاذ له. ‏آس بين الناس في مجلسك ووجهك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى ‏واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرّم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته ‏بالأمس، فراجعت فيه نفسك وهُديت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير لك ‏من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك، مما ليس في كتاب ولا في سنة، واعرف الأشباه والأمثال، ‏ثم قس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أحبها لله، وأشبهها بالحق فيما ترى. المسلمون عدول في الشهادة بعضهم على ‏بعض، إلا مجلودًا في حد أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو قرابة؛ فإن الله قد تولى منكم السرائر، ودرأ ‏عنكم الشبهات. وإياكم والقلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق”. ‏

‏ ‏

ويستنبط من هذه الرسالة:‏

‏1- معاملة الناس جميعًا بالمساواة.‏

‏2- يجب أن يحدد تاريخًا معينًا لتقديم الدعوى.‏

‏3- إذا لم يحضر المدعي عليه في التاريخ المحدد، يمكن أن يحكم في القضية غيابيًّا.‏

‏4- كل مسلم يصلح للشهادة عدا من وقع عليه عقاب أو ثبت كذبه في الشهادات.‏

‏ ‏

ولم يكتفِ عمر بهذا، بل كان يكتب الفتاوى المتعلقة بالأمور المهمة والشائكة ويرسلها للقضاة بين الحين والآخر، وقد ‏وضع عمر كثيرًا من القيود لمنع وسائل الدخل غير المشروع فقرر الرواتب المناسبة، فقد كان راتب سلمان بن ربيعة ‏الباهلي والقاضي شريح خمسمائة درهم شهريًّا، ولم يكن يسمح لأي قاض بالبيع والشراء والتجارة، وهذه هي القواعد ‏التي تتبعها اليوم الدول المتقدمة بعد عهود من التجربة. ‏

‏ ‏

الدواوين والاهتمام بالنظام المالي في الإسلام

اتسعت رقعة الدولة زمن عمر  اتساعًا كبيرًا، وأصبحت الحاجة ملحة لضبط الأمور، وخاصة في النواحي المالية؛ ‏ولذلك أُنشئت الدواوين (الوزارات)، وهو  أول من دَوّنها، فكان ديوان (الجند) وديوان (الخزانة) وديوان العطاء ‏‏(التأمينات الاجتماعية).‏

‏ ‏

وبعد فتح العراق واجه مشكلة تقسيم الأرض، فقد طلب الفاتحون أن تقسم الأرض بينهم، وعارضهم في هذا الرأي.‏

‏ ‏

وكان  يتوخى الحذر في القضايا الكبيرة الاجتهادية، فكان لا يفصل في قضية دون أخذ رأي الصحابة، ويظل ثلاثة أيام ‏يشاور الصحابة، وقد أيده في رأيه عليٌّ وعثمان وزعماء الأنصار، وعارضه عبد الرحمن بن عوف وبلال، وكان ‏أشدهم عليه بلال، حتى قال: “اللهم اكفني بلالاً وأصحابه”. ‏

‏ ‏

وكان رأي عمر أن الأرض إذا وزعت على الفاتحين، فمن أين ستأتي بعدئذ نفقات الدولة ونفقات الجهاد والدفاع عن ‏البلاد؟ ومَنْ للذرية بعدئذ؟ واستشهد عمر بالآيات من سورة الحشر {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ ‏هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر 9، 10]. ‏استنبط عمر من هذه الآية أن الأجيال المسلمة القادمة لها الحق في الأراضي المفتوحة، وهكذا استقر الرأي على بقاء ‏الأرض بأيدي أصحابها ويدفعون الخراج عنها. ‏

‏ ‏

إن ترك المال بأيدي الناس ليعملوا أو يربحوا، وتزداد أموالهم هو الرأي الصحيح في قضايا المال، وهو يدل على عمق ‏فهم عمر لمصلحة الأمة، وعمق نظرته المستقبلية، وهذا ما أدركته أوربا في العصور الحديثة، وأثبته (آدم سميث) في ‏كتابه (ثروة الأمم)؛ حيث إن الثروة لا تقاس بما يملكه الحكام أو الملوك، ولكن بما يملكه الناس؛ فالدولة لا تشتغل ‏بالتجارة أو الصناعة. ‏

‏ ‏

ولم يكتفِ  بهذه النظرة لمستقبل الأجيال، بل أمر بمسح أرض العراق، حتى يكون كل شيء محسوب بدقة، ولا يظلم ‏الذين يعملون في الأرض، ولم يكن مسح الأرض من الفنون التي تعرفها العرب، واختار رجلين من الصحابة لهذه ‏المهمة: عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان، وكانت لهما خبرة في هذا المجال، بل يذكر الإمام أبو يوسف في كتابه ‏‏(الخراج) أن عثمان بن حنيف كان يقيس بدقة، كما لو كان يقيس الأقمشة النفيسة. ‏

‏ ‏

وخوفًا من أن تُحمِّل الأرض خراجًا لا تطيقه، فقد استدعى هذين الصحابيين ليسألهما، كما روى البخاري عن عمرو بن ‏ميمون قال: “رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال: ‏كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرًا هي له مطيقة، وما فيها كبير فضل. ‏فقال عمر: لئن سلمني الله تعالى، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحدٍ بعدي”. ‏

‏ ‏

ومن الأمور الغريبة أنه بالرغم من أن عمر حدد الخراج في يسر وسهولة، ولكن مقدار الخراج الذي جبي في عهده لم ‏يجب مثله فيما بعد، وذلك للعدل الذي كان ولرفقه بالرعية، وتحت نظام الخراج قضى عمر على نظام الإقطاع الروماني ‏المنتشر في بلاد الشام، وأقام نظامًا للإنصاف مع البلاد المفتوحة لا يوجد له مثيل في أي بقعة من الأرض. ‏

‏ ‏

ديوان العطاء

قرر عمر  لكل مسلم مخصصات مالية مستمرة، سواء أكان رجلاً أم امرأة، كبيرًا أم صغيرًا (حتى للطفل الرضيع)، كما ‏شملت هذه التأمينات الفقراء من غير المسلمين، وعندما بدأ بتسجيل أسماء الناس قال: بمن نبدأ؟ قال له عبد الرحمن بن ‏عوف: ابدأ بنفسك. قال: لا، بل نبدأ ببني هاشم وبني المطلب. وفرض للعباس ثم لعلي رضي الله عنهما، ثم الأقرب ‏فالأقرب من رسول الله ‏ ، ثم قدم أزواج النبي فكان لهم أعلى المخصصات، ثم أهل بدر ثم الذين بعدهم، وعندما قرر ‏راتبًا لأسامة بن زيد أكبر من راتب ابنه عبد الله، قال عبد الله: أسامة ليس أفضل مني. قال عمر: ولكن أسامة أحب إلى ‏رسول الله منك. وفرض لكل مولود مائة درهم، فإذا ترعرع مائتي درهم، فإذا بلغ رشده زاد له في العطاء. ويقول “والله ‏لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال”. وهذا هو الحق، وهذا هو الفقه لرسالة الإسلام؛ فالفرد في ‏الدولة الإسلامية له الحق في المأوى والمأكل والملبس، ولا يجوز أن يعيش إنسان بين المسلمين ويموت جوعًا.‏

‏ ‏

إن هذه الرواتب هي الحد الأدنى لكل إنسان، ولا يجهل عمر  أن لا تكون هذه العطايا مدعاة للكسل وترك العمل، وعندما ‏كتب الإمام الماوردي عن مهمة المحتسب في الإسلام قال: “وهي تنبيه القادرين على كسب عيشهم وتأديبهم إذا كانوا ‏يأخذون الصدقات وهم قادرون على العمل، واستدل بفعل عمر قال: وقد فعل عمر ذلك بقوم من أهل الصدقة”. ‏

‏ ‏

من أين لعمر  هذه الثقة في أن يأتي الراعي في صنعاء نصيبه من هذا المال؟! إنه من العدل ومن تنظيم بيت المال، وقد ‏وضع القرآن الكريم والسنة النبوية أصول النظام المالي، وأعطاه صفته التفصيلية عمر بن الخطاب، وقد استفاد أيضًا ‏من تنظيمات البلاد المفتوحة.‏

‏ ‏

عندما ورد على المدينة أموال عظيمة من الخراج لم يكن هناك مكان معين لبيت المال، كان المال يوزع على المسلمين ‏في وقته، ولكن عندما كثر المال شاور عمر الصحابة، فكان رأي علي بن أبي طالب  أن يقسم المال في نفس السنة ولا ‏يوضع شيء منه في الخزانة، وخالفه في ذلك عثمان ، وقال الوليد بن هشام: لقد رأيت عند ملوك الشام إدارتين ‏منفصلتين إدارة الحكومة وإدارة الخزانة، واستحسن عمر هذا الرأي وأسس بيتًا للمال، وأقام أول خزانة كبيرة في دار ‏الخلافة، وعيّن عبد الله بن الأرقم (صاحب بيت المال)، وأمر ببنية قوية لبيت المال في الكوفة. ‏

‏ ‏

الاهتمام بالزراعة وشق الأنهار وتمهيد الطرق

أولى عمر اهتمامًا كبيرًا بتطوير الزراعة واستصلاح الأراضي، وأصدر بهذا الشأن حكمًا عامًّا بأن من يصلح الأراضي ‏البور أينما وجدت في جميع أنحاء الدولة، فإن ملكيتها تئول له وإذا لم يصلحها في غضون ثلاث سنوات تسترد منه.‏

‏ ‏

إن الزراعة كما يقول علماء الاقتصاد في العصر الحديث هي أساس الاقتصاد وأساس الصناعة، “وعلى هذا الأساس، ‏فالأرض هي الوسيلة المأمونة كما يقول اليوم الاقتصاديون الذين يدرسون مشاكل العالم الثالث لضمان (إقلاع) مجتمع ما ‏من مرحلة أولية إلى مرحلة ثانوية…”[2]. ‏

‏ ‏

إن اهتمام عمر بالزراعة والأرض جعله يهتم أيضًا بإدارة الري مثل إقامة السدود وبناء القناطر لتوزيع المياه وشق ‏فروع للأنهار، وقد استأذن جزء بن معاوية عمر ليحفر أنهارًا كثيرة في مراكز الأهواز وخوزستان؛ لاستصلاح كثير من ‏الأراضي غير الصالحة للزارعة. ومن اهتماماته  ما يسمى اليوم بـ(المنافع العمومية) أو البنية التحتية والحالة المعيشية ‏للناس؛ ولهذا أمر بشق الأنهار التي توصل الماء إلى المدن مثل نهر أبو موسى، وكان طوله تسعة أميال. وكان سبب ‏ذلك أن الأحنف بن قيس اشتكى إلى عمر ملوحة أرض البصرة، فيضطر الناس لإحضار الماء من مسافة ستة أميال، ‏فأمَر عمر أمير البصرة أبا موسى الأشعري بأن يحتفر نهرًا لأهل البصرة يتفرع عن نهر دجلة. وحفر في دجلة أيضًا ‏نهر معقل الذي يضرب به المثل (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل)، وكلف بمهمة إعداده الصحابي معقل بن يسار.. ‏

‏ ‏

ولكن أعظم الأنهار وأكبرها فائدة ذاك الذي أمر به عمر أيضًا، والذي اشتهر باسم خليج أمير المؤمنين، وهو قناة تصل ‏ما بين نهر النيل والبحر الأحمر، وكانت بداية هذه القناة في الفسطاط، ثم إلى بلبيس، ثم إلى البحر الأحمر وقد أنجز ‏المشروع في ثمانية أشهر[3]. فكانت السفن تنقل المؤن والبضائع من مصر إلى المدينة بيسر وسهولة، وبقي هذا ‏المشروع ثم أهمل بعد القرن الأول من الهجرة. ‏

‏ ‏

أما إصلاح الطرق وتمهيدها، وهو شيء أساسي في (البنية التحتية) فقد اهتم به عمر اهتمامًا بالغًا، وهو الذي يقول: (لو ‏أن شاة عثرت في شط الفرات، لخشيت أن أسأل عنها). وهذا شيء لم يسمع به في أي حضارة من الحضارات السابقة؛ ‏لأن تمهيد الطرق هو الذي يؤدي إلى الاتصال السهل بين المدن والقرى والبادية ويساعد على انتعاش الزراعة ‏والصناعة، كما هو الحال في أوربا اليوم[4]. ‏

‏ ‏

كما بنى عمر استراحات بين المدينة ومكة للمعتمرين والحجاج، واتخذ في كل مدينة دارًا للضيافة. إن نظرة عمر  للمال ‏واهتمامه بشئون الناس المعاشية واهتمامه بالطرق والقنوات المائية، وكذلك اهتمامه بتنظيم (النقد) وضبط المعاملات ‏بها، وضمان تنفيذ العقود وحرية الناس التجارية من خلال القضاء المستقل، إنما يعطي مثالاً واضحًا لدور الدولة في ‏الإسلام التي لا تتدخل في شئون الناس المعاشية أو تشاركهم في أموالهم ومشاريعهم، وإنما هي الحماية ونشر الأمن، ‏وضبط السوق؛ حتى لا يقع الاحتكار أو أي نوع من الاعتداء على الممتلكات.‏

‏ ‏

بناء المدن

يقال إن الحضارة الإسلامية هي حضارة مدن، فقد بنى خلال هذه الحضارة مئات المدن، ما يزال كثير منها موجود ‏حتى الآن، وقد بدأ هذا الاتجاه الحضاري عمر بن الخطاب، وذلك حين قدمت إليه الوفود بعد فتح جلولاء وحلوان فلم ‏تعجبه هيئاتهم وأجسامهم فقال لهم: ما الذي غيركم؟ قالوا: وخومة البلاد. فكتب إلى سعد بن أبي وقاص: أن ابعث سلمان ‏وحذيفة رائدان ليرتادا منزلاً بريًّا بحريًّا. فظفر بالكوفة وأقرهم عمر، وأذن لهم في البنيان ولكن على ألا يتطاولوا في ‏البنيان، وقال لهم: (الزموا السنة تلزمكم الدولة). وطلب من سعد أن يدعو أبا الهياج بن مالك، وأمره أن يجعلها مناهج ‏‏(شوارع) عرض كل منها أربعون ذراعًا، وأخرى عرض كل منها ثلاثون ذراعًا، وأخرى عرض كل منها عشرون ‏ذراعًا لا تضيق عن ذلك شيئًا. ‏

‏ ‏

ثم بنيت البصرة وفي مصر بنيت الفسطاط والجيزة؛ ولذلك يلقب  بأنه (أبو المدن)، وهو لا يكتفي بالإذن بالبناء، بل ‏يخطط لهم موقع المدينة المناسب (ليس بينه وبينهم ما يمنع الوصول إليهم)، ومقدار اتساع شوارعها، وينهاهم عن ‏التطاول في البناء حتى يبقى المسلمون في حالة وسط، ولا ينتقلون إلى حالة الرفه والإسراف، وإذا وقع ذلك فعندئذ ‏تذهب عنهم الدولة. ويُروى أن عمرو بن العاص أمير مصر اتخذ منبرًا مرتفعًا، فكتب إليه عمر: بلغني أنك اتخذت ‏منبرًا ترقى به على رقاب المسلمين، أوَما بحسبك أن تقوم قائمًا؟ فعزمت عليك لما كسرته. وبنى خارجة بن حذافة غرفة ‏‏(فوق البناء الأرضي) فكتب إلى عمرو بن العاص: فقد بلغني أن خارجة بنى غرفة، وقد أراد خارجة أن يطلع على ‏عورات جيرانه، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إن شاء الله.‏

‏ ‏

إنها عبقرية عمر في النظرة للمستقبل وما سيئول إليه أمر المسلمين حين يقعون في الترف المهلك، وفي تبديد الأموال ‏على البناء والزخرفة. ‏

‏ ‏

حرية الفرد وكرامته وشخصيته

إن حماية حرية الإنسان وصيانة كرامته من أهم المطالب الشرعية، ولا تستقيم الحياة البشرية بدونها؛ فالاعتزاز بالنفس ‏وخلق الإباء من الأسس المهمة لنضج الأخلاق؛ ولذلك اهتم عمر  بهما، ويقول مخاطبًا وفود المسلمين إلى المدينة: “أيها ‏الناس، إني والله ما أرسل عمالاً (أمراء) ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنة ‏نبيكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إليَّ، فو الذي نفس عمر بيده لأقصنه منه. قال عمرو بن العاص: لو أن ‏رجلاً أدب بعض رعيته، أتقصنه منه؟ قال: أي والذي نفسي بيده، إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصنه منه وقد رأيت ‏رسول الله ‏ يقص من نفسه…”. ‏

‏ ‏

وكان يقول للعمال (أمراء المناطق): “لا تضربوا أبشار الناس فتذلوهم”. فهو  يهتم بكرامة المسلم؛ لأن في ضربه إذلالاً ‏له، وعندئذ يصبح شخصية ضعيفة مستكينة، وليس هذا من تربية الإسلام.‏

‏ ‏

بل هو يهتم بكرامة الإنسان، كل إنسان، وهو الذي قال قولته المشهورة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم ‏أحرارًا؟!” عندما ضرب مسلم رجلاً قبطيًّا في مصر.‏

‏ ‏

ومن اهتمامه بشخصية المسلم التي يريدها أن تبقى في حالة وسط لا تقع في الترف ولا تصل إلى حالة الشظف، ‏شخصية متعالية على عبادة الأثاث والرياش، يقول مخاطبًا المسلمين: “اخشوشنوا وتمعددوا[5] وانزوا على الخيل”. ‏ويطلب من الآباء تعليم أولادهم السباحة والرماية وركوب الخيل. ويطلب من سعد بن أبي وقاص بناء المدن، بعيدًا عن ‏المستنقعات حماية لصحة المسلمين. ‏

‏ ‏

العلم ونشر العلم

من البديهي أن القرآن الكريم هو أساس العلم وأساس الحضارة الإسلامية، وقد نوه القرآن وأشاد كثيرًا بالعلم والعلماء ‏وأثار في نفوس المسلمين حب العلم والتعلم، ومن أعظم أعمال عمر جهوده العلمية خدمة للإسلام ما أشار به على أبي ‏بكر  في جمع القرآن، وكانت طريقة جمعه على أسس علمية دقيقة، فقد وضع عمر منهجًا للتوثيق، فلا يؤخذ أي ‏مخطوط (آية أو آيات) لا يشهد شخصان على أنه مكتوب وليس من الذاكرة فقط، فجمع بين الحفظ في الذاكرة والكتابة، ‏شاهدين عدلين على الكتابة وشاهدين عدلين على الحفظ (اسم القرآن يدل على القراءة واسم الكتاب يدل على الكتابة). ‏

‏ ‏

وبعد أن تم هذا المشروع العظيم، كان الذي يشغل بال عمر هو تعليم المسلمين هذا الكتاب وخاصة الذين أسلموا بعد أن ‏فتحت بلدانهم؛ ولذلك أرسل المعلمين من كبار الصحابة إلى المناطق المفتوحة ليعلموهم دينهم، أرسل عبد الله بن مسعود ‏إلى الكوفة، وعمران بن حصين ومعقل بن يسار إلى البصرة، وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء ومعاذ بن جبل إلى الشام؛ ‏فالفتوحات لا تترسخ وتستقر إلا بأن تنصهر هذه الشعوب في بوتقة الإسلام، ويعيش المسلمون أمة واحدة. وحتى ينتشر ‏العلم في كل مكان، أرسل عمر رجلاً يجول بين القبائل في البادية معلمًا للقرآن، أي أن عمر نشر التعليم الإلزامي. ‏

‏ ‏

الاهتمام بالوقت والتاريخ

عندما قدم إلى عمر صك مكتوب عليه كلمة (شعبان)، قال عمر: كيف نعلم أن المقصود شهر شعبان الماضي أم الحالي؟ ‏فعقد مجلسًا للشورى حضره كبار الصحابة وعرض هذه المسألة، أي تحديد التاريخ حتى لا تقع الأخطاء في العقود ‏والمعاملات. فقال البعض: أرِّخوا من مولد الرسول ‏ ‏. وقال آخرون: من مبعثه. وأشار علي  إلى أن يؤرخ من ‏الهجرة، فاستحسن عمر هذا الرأي، واستقر الأمر على أن تكون بداية التأريخ من بداية هجرة الرسول ‏ إلى المدينة، ‏وأرخوا من محرمها.‏

________________________________________

‏[1] يقول المؤرخ الأمريكي ول ديورانت واصفًا مجيء عمر إلى بيت المقدس: “وجاء الخليفة نفسه للتصديق على ‏شروط التسليم، جاء من المدينة في بساطة أفخر من الفخامة” (قصة الحضارة 13/76). ‏

وعن أبي الغادية الشامي قال: “قدم عمر الجابية على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة”.‏

‏[2] مالك بني نبي: مشكلة الأفكار ص40.‏

‏[3] القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة 1/19.‏

‏[4] قال أحد أساتذة الجامعات في أمريكا: إن أعظم إنجازات الرئيس (أيزنهاور) هي شبكة الطرق التي أنجزت في عهده ‏وليس انتصاراته في الحرب.‏

‏[5] أي: كونوا مثل جدكم معد بن عدنان في البأس والخشونة.‏

المصدر موقع المسلم:‏

www.almoslim.ne/node/138897