عبد الحميد داغستاني
إن بني إسرائيل ما تركوا جريمة منكرة إلا وفعلوها، ولا ضلاله إلا اتبعوها، والآيـات الكريمة في كتـاب الله الـذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في وصفهم، وبيان ما فعلوه كثيرة، حتى إنها لتصور جرائمهم أبلغ تصوير، فهم الذين عبدوا العجل لما ذهب موسى -عليه السلام- لميقات ربه ليلقي إليه الألواح التي فيها شرائعهم وعقائدهم (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) [البقرة: 51]، ولما أنزل الله عليهم المن والسلوى -وهما من أطيب أنواع الطعام-، وجعـل السحاب والغمام ساتراً لهم من حرارة الشمس؛ جحدوا نعمة الله عليهم، وقالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد) [البقرة: 61] وطلبوا العدس، والبصل، والثوم وغير ذلك.
ولما أمرهم بدخول القرية المقدسة وهي أرض آبائهم وأجدادهم ماذا كان موقفهم؟ لنستمع سوياً للسياق القرآني في ذلك: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفـر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) [البقرة: 58-59].
ومعنى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم) أي: بدل أن يقولوا حطة ومعناها: اللهم احطط عنا خطايانا وذنوبنا، قالوا: حبة حنطة في حبة شعير!
فهل رأيتـم معشر المؤمنين كيف استهزؤوا بأوامر الله -سبحانه وتعالى-، وبأوامر رسوله موسى -عليه الصلاة والسلام-؟!.
ولم يرسل إلى أمة من الأمم مثلما أرسل إلى بني إسرائيل من الأنبياء والمرسلين وذلك لكثرة تكذيبهم، ولحقارة ودناءة نفوسهم، بل لقد كانوا يقتلون أنبياءهم، ويقدمون رؤوس بعضهم مهراً للبغايا من بنات الهوى عندهم.
ولتعلموا معي معشر المؤمنين عظم جرمهم، فاسمعوا ماذا يقول لكم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (كانت بنو إسرائيل في اليـوم تقتـل ثلاثمائـة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار) أي يبيعون ويشترون وكأن الأمر لا يعنيهم، والرسول يقول: ((أشد النـاس عذابـاً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيـاً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين)) (1) رواه أحمد.
لقد حاول اليهود كذلك قتل النبي لما ذهب إلى يهود بني النضير ليستعين بهم على قضاء ديتين كانتا على المسلمين، أجلسوه تحت جدار، وأرادوا أن يلقوا على رأسه حجراً ليقتلوه -بأبي هو وأمي- فأتاه الخبر بذلك سريعاً، وأمر بإجلائهم وإخراجهم من المدينـة المنورة، وسورة الحشر تبين قصتهم ومكرهم ومكر الله بهم.
ولقد سمت النبي يهودية، إذ سألت من أي موضع من الشاة يحب أكله، فأخبرت بأنه الذراع، فسممت ذراع الشاة وقدمتها له هدية فأكل، ولم يستسغه فتفله، وقال: ((إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة)) أو كما قال، وأكل معه صحابي جليل فمات -رضي الله عنه-.
ولما حضرت النبي الوفـاة كـان يعـاني من أثر السـم كما أخبر هو بذلك، ولقد بلغ اليهـود رتبـة أسفل ومنزلة أخس من الدنـاءة، إذ قد سبوا الله – سبحانه وتعالى الله علـواً كبيـراً -: (وقالت اليهـود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالـوا بـل يـداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) [المائدة: 64].
واليهـود هـم أعدى أعداء المسلمين، وعداوتهم لنا تاريخية قديمة قدم التاريخ نفسـه، ويشهـد بذلـك ربنـا ولا أعظم شهادة من الله إذ يقول: (لتجدن أشد الناس عـداوة للذيـن آمنـوا اليهود والذين أشركـوا) [المائدة: 82]، ويصفهم الله بوصـف قبيـح فيقـول: (ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين)[المائدة: 64]، أي يجتهـدون في نشر الفساد بكل أنواعه في الأرض التي خلقها الله ومن عليها لتعمر بشرع الله ولتحكم بحكم الله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[الذاريات: 65].
وهم في سبيل نشر الفساد الخلقي أو العقائدي، أو في مجال نقض العهود – ونقض العهود من سماتهم وصفاتهم المتأصلة في طيات نفوسهم -، يتوارثون هذه الصفة كابراً عن كابر، وأباً من جد.
لقد نقضوا عهود موسى وعيسى وسيدنا محمد، فقد خذلوا المسلمين في غزوة الأحزاب وذلك بالمفاهمة مع المشركين، والاتفاق معهم أن يطبقوا على النبي من الجهتين، المشركون من جهة واليهود من خلف المسلمين، فقتل النبي مقاتلهم وكل من أنبت منهم، وسبى ذراريهم ونساءهم، ويحكي الله قصتهم مع موسى فيقول: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمتـه لكنتم من الخاسرين) [البقرة: 63-64]، هذا ديدنهم، وهذه طبيعتهم: نقض العهود والمواثيق (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) [البقرة: 100].
ومن هنا يجب على المسلمين ألا يطمعوا في ود بني إسرائيل في يوم من الأيام أو في مسالمتهم، فهذا حكم القرآن فيهم، وهذا وصف الله لهم (ومن أصدق من الله قيلاً)[النساء: 122].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله، نصر عبده، وأعز جنده، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أيده الله ورفع شأنه – صلى الله عليه وسلم – تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يقول تعالى عن اليهود (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)[سورة آل عمران: 112]، إن في الآية حكماً عليهم بالصغار والهوان إلى يوم القيامة.
وهنا يأتي السائل الأول فيقول: كيف ضربت عليهم الذلة والمسكنة وأخبارهم تنقـل إلينا كـل يوم عدوانا جديداً؟! كيف ضربت عليهم الذلة والمسكنة وتسلطهم اليوم في مصير المسلمين ظاهر، وتبجحهم علينا في كل محفل من المحافل واضح؟!
كيف ضربت عليه الذلة والمسكنة وبالأمس القريب قتلوا العشرات من بني الإسلام في عقر ديار المسلمين؟!
فأجيب بعون الله من يسأل وأقـول له: هـون عليك يا أخي، وارجع إلى الآية السابقة فالله يقول: (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) ومعنى بحبل من الله وحبل من الناس: أي بعهد الله لهم كأن يكونوا أصحاب ذمة تحت حماية المسلمين في الدولة الإسلامية، ويمكن أن يكون معنى (حبل من الناس) أي عهد من الناس أو اتفاق يكون فيه ذل غير اليهود، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويمكن أن يكون معنى (حبل من الناس) أي وسيلة تؤدي إلى عز اليهود، وذل المسلمين، كابتعادهم عن دينهم، وتفرقهم وتشتتهم فيما بينهم، وتركهم للجهاد، مما يمكن اليهود من التوسع في نشر الفساد الذي تنقل إلينا أخباره، فمن أقام دور السينما العالمية، وركز على إخراج المرأة واستخدامها أداة إضلال وتضليل؟ ومن أقام نوادي الدعارة السرية وأمدها بالمال؟ ومن نشر المخدرات بين أبناء المسلمين، وسعى في سبيل إفساد الجيل المحمدي بأبهض النفقات إلا اليهود قاتلهم الله.

إني لا أحب أن أصور اليهود بأنهم العدو الذي لا يقهر، والعدو الذي لا يهزم، فهم يسعون إلى بث هذا التصور بين أبناء المسلمين لتحطيمهم معنوياً ومادياً، وإنما أدعو بني قومي إلى رجعة صادقـة إلى تعاليم القـرآن، وإلى سنة رسول الرحمن، إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة ولا هيمنة قال رسول الله: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)(2)رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم.

(1) المسند 12/407.
(2) المسند 2/ 84.وسنن أبي داود:كتاب البيوع باب في النهي عن العينة.

نقلاً عن موقع المنبر