تجويع الأمعاء بين ضرورة حفظ الدّين وحفظ النّفس

د. رانية نصر عضو هيئة علماء فلسطين

ما إن نسمع باستشهاد أحد إخواننا الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بسبب الإضراب عن الطعام؛ إلا وتُثار التساؤلات المنطقية والتي دافعها العاطفة أكثر من العقل عن مشروعية هذا السلوك القاسي الذي يلتزمه الأسير مع نفسه؟!، فمنهم من يعتقد بأنه انتحار والانتحار لا يجوز شرعاً، ومنهم من يعتقد بأنه تعريض النفس للخطر والتهلكة التي حرّمها الله -عز وجل-، حيث قال: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ البقرة: 195، ومنهم من يعتبرها طريقاً مشروعة للدفاع عن الدين والنفس والأرض والعرض، وبالرغم من انقسام الناس إلي صفين؛ صف مؤيد وآخر معارض، إلا أننا نستطيع  تفكيك المسألة وتفصيلها على نحو يُبيين ضرورة تحقيق التّوازن بين الحفاظ على مقاصد الشريعة بحفظ الكليات الخمسة، ومناقشة ترتيبها في سلم الأولويات، والأساليب الموصلة لتحقيق هذه المقاصد وبين ضرورة عدم تفويت الغايات الكبرى وهي تحقيق العبودية الكاملة لله وإقامة شرعِه والاستخلاف في الأرض وإعمارها.. والضوابط التي تساعد في الوصول إلى نتيجة راشدة خاصة عند تدافع المصالح وتزاحمها؟

وهذا ما سيحاول هذا المقال بحثه.

أولاً: جدلية حفظ النفس أولى أو حفظ الدين.

اتفق الفقهاء على وجوب حفظ الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال “وزاد بعضهم العرض”، واختلفوا في أيهما يُقدّم على الآخر، حفظ الدين أو حفظ النفس على النحو الآتي:

حفظ النفس مُقدّم على حفظ الدين

يُقدم حفظ النفس على الدّين لأدلة كثيرة منها جواز النطق بالكفر عند الإكراه لحفظ النفس، قال تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ النحل: 106، وجواز أكل الميتة وشرب الخمر عند الاضطرار لأجل حفظ النفس، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ الأنعام: 145، فضلاً عن جواز ترك الجمعة والجماعات عند الخوف على النفس من عدو أو سبع أو تهلكة.

قال الآمدي: فإن قيل: “بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح، وذلك لأن مقصود الدين حق لله تعالى، ومقصود غيره حق للآدمي، وحق الآدمي مُرجّح على حقوق الله تعالى لأنها مبنية على الشّح والمضايقة، وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة، من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه، فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته، ولذلك رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى، بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد وضاق على استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمداً عدواناً نقتله قصاصاً لا بكفره،

ولأن النفس متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر، ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يُفضي إلى تفويتها، فالتقديم إنما هو متعلق الحقين، ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقاً لله”.

حفظ الدين مُقدّم على حفظ النّفس

ويُقدّم هذا الفريق حفظ الدين على الكليات الأخرى كلها بما فيها النّفس، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات: 56، ودلالة هذه الآية جلية وواضحة في أن حفظ الدين أعظم المقاصد على الإطلاق، وممارسة حرية العبادة لا تُتَصَوّر بدون إقامة هذا الدّين، ولقد حفظه الله تعالى من الاعتداء عليه والتهاون به، والاستخفاف بأحكامه، لذلك شرّع من الأحكام ما يردّ المُعتدي، ويدفع عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وكل ما يؤدي إلى ضياعه أو إضعافه، ولذا كان الجهاد وسيلة لا غاية، وهو في ظاهره مظنة إهلاك النفس وتفويت الحياة، لكنه في حقيقته تأمين حياة بقية الناس للعيش بكرامة وعزّة، فلا معنى للحياة والإنسان فيها مهان وذليل ومسلوب الحرية والإرادة، لذلك شُرع الجهاد لتأمين طريق الدعوة ابتداءً، ولتمكين العباد من ممارسة حريتهم في الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية.

 

ذكر نور الدين الخادمي في كتابه “علم المقاصد الشرعية” أن المقاصد الضرورية لحفظ الدين هي تثبيت أركان الدين وأحكامه في الوجود الإنساني والحياة الكونية، وكذلك العمل على إبعاد ما يخالف دين الله ويعارضه، كالبدع ونشر الكفر والرذيلة، والإلحاد، والتهاون في أداء واجبات التكليف، وأما المقاصد الضرورية لحفظ النفس فهي مراعاة حق النفس في الحياة والسلامة والكرامة والعزة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ الإسراء: 70، وقال: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ التين: 4، فالمقاصد الضرورية لحفظ الدين عامة والمقاصد الضرورية لحفظ النفس خاصة؛ وعندما تتزاحم المصالح العامة مع الخاصة تُقدّم العامة لأولويتها، فضلاً عن أن حفظ النفس في الحياة بدون كرامة وعزة يوجب بذلها من جماعات قليلة في سبيل تأمين هذه المتطلبات لجماعات أكبر، وهو دليل عقلي ومنطقي قبل أن يكون شرعياً.

ومن موجبات القتل الردة، والقتل هو إزهاق للروح؛ لكن لمّا كان مُوجبه حفظ الدين امتنعت حرمة هذه النفس، وكذا القصاص وهو قتل نفس القاتل، فمن باب الإنصاف والعمل بالعدل إزهاق روح من قتل عامداً مُتعمداً دون موجب أو حق؛ لضمان إقامة مجتمع سويّ آمن قائم على المساواة والعدل بين الناس، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ النحل: 90، والأمر بالعدل والنهي عن البغي والاعتداء يستلزمان الوجوب، وكلمة “يعظكم” فيها تحذير من سوء العاقبة والنتيجة عند عدم تنفيذ أوامره عز وجل، فهي على الإجبار لا على الخيار.

قال الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع: “والضروري، وهو ما تصل الحاجة عليه حد الضرورة كحفظ الدين، المشروع له قتل الكفار وعقوبة الداعين إلى البدع، فالنفس؛ أي حفظها المشروع له القصاص، فالعقل أي حفظه المشروع له حد السكر، فالنسب أي حفظه المشروع له حد الزنا، فالمال أي حفظه المشروع له حد السرقة وحد قطع الطريق والعرض أي حفظه المشروع له حد القذف”.

وقال الفقيه الحنفي ابن أمير حاج: “ويقدم حفظ الدين من الضروريات على ما عداه عند المعارضة، لأنه المقصود الأعظم”، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات: 56، ويتبيّن من قوة الأدلة السابقة أن أغلب العلماء قدّموا حفظ الدين على النفس وهو الرّاجح والله أعلم.

هل حفظ النفس وحقن الدّماء غاية مطلقة في الإسلام؟؟

حفظ الدين يكون بالعمل والحكم به وله، والدعوة إليه، والجهاد في سبيل تطبيق أحكامه، ورد كل ما يخالفه، والجهاد فرضه الله عز وجل، وليس للبشر يدٌ طولى أو اجتهاد فيه؛ قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة: 111، فحقن دماء المسلمين وحفظ حياة الشباب، ليس أغلى من أن تراق في سبيل الله وفي سبيل الدفاع عن الوطن انطلاقاً من معتقد إعلاء راية الإسلام لا من باب القوميات أو الوطنيات، وليس للمؤمنين أن يتركوا الجهاد في سبيل الله حقناً لدمائهم، وإن قلّ عددهم وكثر عدد أعدائهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ﴾ الأنفال:65، والتّحريض هنا هو التعبئة الجهادية والدعوة لها لمحاربة المُعتدي، وهو بذل النفس في سبيل الله، وهنا تتضح الرؤية الدقيقة في أن حفظ النفس ليس أغلى من حفظ الدين؛ بل تُبذل رخيصة لأجله.

فالمصالح عندما تتزاحم؛ تُقدم الضرورية منها على الحاجية، والحاجية على التحسينية.. وهكذا، قال الزركشي رحمه الله: “وتنقسم المصلحة المُعتبرة بحسب قوتها في ذاتها، أو بالنسبة لحاجة الإنسان إليها إلى: ضرورية، حاجية، تحسينية، والضرورية هي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارج، وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم”.

سياسة تجويع الأمعاء غاية أم وسيلة؟

يدخل الأسير في الإضراب عن الطعام كنوع من المقاومة والمطالبة بحقه في الحرية، ومعلوم أن الحرية أعلى مطلب في مبادئ حقوق الإنسان، فضلاً عن أنها إحدى ركائز المبادئ الدستورية الإسلامية بل والعالمية أيضاً التي تقرّها كل الشرائع والقوانين والمبادئ والمواثيق، فهذا الأسير الذي يتم اعتقاله في الغالب بشكل تعسفي ومجحف، وسلبه حقوقه المشروعة في حق الحياة والعيش الكريم وممارسة حرية الاعتقاد، هو يقصد بذلك الضغط على المُعتدي الظالم، وتعريته أمام الرأي العام والمجتمع المحلي والدولي، وحيث أن هذا الأسير لا حول له ولا قوة، ومسلوب الحرية والتصرف فلا يجد أمامه سوى هذه الوسيلة لإحداث نوع من التأثير على هذه السياسات القمعية، وقد أثبتت هذه السياسة؛ -سياسة تجويع الأمعاء- نجاحها في كثير من الأحيان.

إذن؛ عندما يدخل الأسير في إضرابه والذي قد يمتد لشهور طويلة؛ هو يستخدم هذا السلوك وسيلة لانتزاع حقه في الحرية، ولا يقصد به الانتحار المَحض حتماً، وهنا نتحدث عن الأسرى الفلسطينيين تحديداً، فهو هنا أمام طريقين؛ إما أن ينجح بنيل حريّته بهذا الإضراب، وإما أن يستشهد ويكون بذلك نال بهذا درجة الاصطفاء والكرامة من رب العالمين، فضلاً عن تأجيج قضية الأسرى في الرأي العام وهذا بحد ذاته مطلب مقصود وفيه مصلحه كبيرة لمن خلفه ممن يقبعون في السجون.

إن الجهاد فرضه الله على المسلمين وهو واجب إلى قيام الساعة، لا يتغير حكمه بتغير الزمان والمكان؛ ولأجله يخرج المسلمون بأسلحتهم للقاء العدو، فمنهم من ينال الشهادة ببذل النفس لإعلاء راية الإسلام ونيل رضا رب العالمين؛ وقياساً على هذا نستطيع القول بأن الأسير الذي يمتنع عن الطعام لأيام وشهور طويله هو كذلك يُجاهد يبذل نفسه رخيصة في سبيل الله لتحقيق الأثر الذي يصب في مصلحة؛ إما نفسه وإخوانه الأسرى على مستوى الأفراد، وإما في مصلحة الجمع الأكبر من المعتقلين على مستوى قضية الأسرى في الرأي العام، أو على المستوى الجماهيري للقضية الفلسطينية بشكل عام.

فلا نقطع أو نجزم بأن سياسة تجويع الأمعاء المؤدية للهلاك فيها شرٌ محض، بل فيها تأمين المصالح والغايات العظمى كما ذُكر سابقاً.

ومن جهة أخرى؛ لقد أوجب الله -عز وجل- علينا حفظ الدين والنفس، ونفس الأسير في الأسر لا نقطع بسلامتها؛ بل معرضة للتهلكة والموت بإهمالها ونسيانها، ولولا هذه الإضرابات التي حولت قضية الأسرى إلى قضية رأي عام والتي أثبتت تأثيرها في القرارات السياسية؛ ربما لبقي الأسير في أسره سنوات طويلة لا يُعلم عنه شيئاً، وطالما أن حفظ النفس ليس غاية مطلقة في الإسلام خاصة إذا بُذلت لحفظ الدين، -كما أسست المفاهيم سابقاً-، فإن هذا الأسير بإضرابه يحافظ على ثوابت ومشروعية المطالبة بحقه، فما قيمة الحياة وهو يعيش في ذل ومهانة!!!

فضلاً عن أن الأسير لا ينتهى دوره بموته؛ بل يكمل هذا الدور أقرانه؛ ذلك أن قضية استشهاده في أسره بسبب الإضراب عن الطعام، لها الأثر البالغ في تأليب الرأي العام وتوجيه، وهي المُعوّل عليها في تغير واقع الأسرى الآخرين، فالسجون ممتلئة بالأحرار، وحقهم على إخوانهم أن يكملوا المسير سواء من خلال تسليط الضوء على معاناة أهاليهم وأطفالهم وعوائلهم، أو من خلال فضح جرائم الاحتلال اللاإنسانية مع المعتقلين بشكل خاص ومع الفلسطينين بشكل عام، فضلا عن أن الأعمار مكتوبة ومحدودة عند رب العالمين، قال تعالى: ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ المنافقون: 11.

المغمور والمشهور بين الرخصة والعزيمة

هل من فرق بين الإنسان المشهور والمغمور في قضية بذل النفس مقابل الحفاظ على الدين؟

نستطيع التفصيل في المسألة أكثر من خلال النظر في أحوال السابقين الذين حملوا راية الدين الإسلامي وذادوا عنه بكل غالٍ ونفيس.

إن المُتَتَبّع لحياة المُصلحين من العلماء والمجاهدين والمعروفين بتقواهم وصدقهم بين الناس؛ يجدهم في كثير من القصص رفضوا الأخذ بالرخص في مواطن المحن والابتلاءات لإحساسهم بالمسؤولية تجاه الأتباع، مثل محنة الإمام أحمد بن حنبل المعروفة ومحنة الإمام سعيد بن المسيب، ومحنة الإمام سعيد بن جبير ومحنة الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت والإمام سفيان الثوري وغيرهم الكثير من العلماء.

فنجد أن عامل الشُّهرة له أثر في نفوس هؤلاء الأكابر في عدم الأخذ بالرخص خشية فتنة الأتباع عن دينهم ولأنهم في مقام القدوة؛ فأخذوا بالعزائم لقوة عزائمهم وتركوا الرخصة لأهلها، ونستطيع القول بأنه في هذا المقام يكون الأخذ بالعزيمة مع احتمال تفويت الحياة مقابل حماية الدين هو الأولى والمُقدم لأن مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة آحاد الناس.

في حين أن المغمور والذي غالباً لا يؤثر إلا على نفسه؛ له أن يأخذ بالرخصة؛ إذ إن في هذا المقام تكون مصلحة حفظ النفس الواحدة غالبة على تفويتها تحقيقاً لمصالح أعظم لهذا الفرد والله تعالى أعلى وأعلم.

معيار غلبة الظن في تحقيق الهدف

وفي هذه المسألة نستطيع أن نعاير قضية تجويع الأمعاء المؤدي إلى احتمال الإهلاك كنوع من المقاومة والضغط حفاظاً على الدين إلى مراتب العلم، قال العالم الفقيه محمد الحسن الددو الشنقيطي في شرح الورقات: مراتب العلم أربعة، أولها اليقين: وهو الذي يقتضي حصول تمام العلم، بحيث لا يبقى الإنسان متردداً في معلومه، والظّن: وهو حصول جمهور العلم، بحيث يكون الحصول أرجح لدى الإنسان من خلافه، والشّك: وهو استواء الطرفين، فيبقى الإنسان متردداً بين الأمرين، واقفاً بينهما حائراً، والوهم: وهو مقابل الظن ويكون دون الشك.

وعليه؛ فإن حصل اليقين أو غلبة الظّن للأسير في إحداث أثر يخدم دينه وأُمّته في مسألة تجويع الأمعاء فله أن يأخذ بالعزيمة في مواصلة الإضراب، وإن حصل له شكٌ في المسألة ووقع حائراً بين العزيمة والرّخصة فله أن يختار بينهما مُستعيناً بالله أن يرشده لما فيه خيرٌ له في الدنيا والآخرة، وإن حصل له الوهم بأن إضرابه لن يُحدث أثراً فيمتنع عن إهلاك نفسه لأن في حفظ النفس هنا مصلحة مُقَدّمة على تفويتها مع عدم اليقين بتحقيق مصالح أخرى معتبرة والله تعالى أعلم.