الخطيب: د. محمد سعيد بكر

رسالة المنبر ١٠-٢-٢٠٢٣م

المحاور:

✅ كثيرة هي الدروس النظرية التي حصل عليها المسلمون في الظروف الطبيعية من خطب الجمعة وغيرها.

✅ ويبدو أن مدرسة الحياة لا تترك أهلها ولا تمنحهم شهاداتها إلا بعد أن تجري عليهم اختباراتها القاسية .. وهكذا هي سنة الله تعالى .. “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (الملك: 2).

✅ والابتلاءات ثقيلة وصعبة لأنك مهما توقعتها فإنها تأتي في صورتها وشكلها وحجمها على خلاف ما توقعت.

✅ ولا أدري لماذا يستغرب الإنسان من وقوع البلاءات بصورها وأحجامها فيعيش وكأنه لن يُبتلى .. وقد أخبرنا رب العزة عن وقوعها حين قال:” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” (البقرة: 155) .. وقال كذلك: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” (العنكبوت: 3).

✅ ومن أسوأ ما في النوازل والابتلاءات ما يأتي:

1️⃣ ظهور بعض الأسئلة التي تدل على ضحالة الإيمان وتكشف عن ضعف العقيدة واليقين .. وهذا يكشف كذلك عن ضعف الدعاة أو شدة الهجمة على الفطرة والدين.

2️⃣ ظهور بعض الشامتين الذين يسيئون الأدب مع أهل البلاء والمصيبة .. وهنا قيل:

لا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك.

3️⃣ استشعار صاحب البلاء أنه ليس في الأرض من ابتلي ببلائه .. مثل تلك المرأة التي “مَرَّ بها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهي تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقالَ: اتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي قالَتْ: إلَيْكَ عَنِّي، فإنَّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبَتِي، ولَمْ تَعْرِفْهُ، فقِيلَ لَهَا: إنَّه النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتَتْ بَابَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقالَ: إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى” رواه البخاري.

4️⃣ أن يمقت أصحاب البلاء أنفسهم ويقنطوا من رحمة ربهم وهم يظنون أن البلاء كله عقوبة من الله تعالى .. والصحيح أن البلاء تذكير وتوجيه وإن كان في صورة خشنة ثقيلة .. فبعض المواعظ يحتاج إلى أن يكون شديداً يهز الغافلين .. والله تعالى يقول:” وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) .. ففي قوله تعالى (لعلهم يرجعون) دليل على أن بلاءات الدنيا هدفها وغايتها التهذيب وإن كانت في صورة تعذيب.

✅ وليس كل بلاء حكمته التهذيب .. بل إن في بلاءات الأنبياء رفعة لدرجاتهم .. فقد قيل “يا رسولَ اللهِ ! أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً ؟ قال : الأنبياءُ ، ثم الصالحون ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه ، فإن كان في دِينِه صلابةٌ ، زِيدَ في بلائِه ، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ” وهو صحيح.

✅ ومن أعجب ما في عالم الابتلاءات أنها ليست حصرية بالكافر والفاجر دون المسلم الطائع أو العكس .. فقد يبتلى هذا وذاك؛ فيكون ابتلاء المؤمنين رفعة لدرجاتهم .. وأما الفاجرون فالابتلاء يرغم أنوفهم .. ومن حكمة الابتلاءات ما يأتي:

1️⃣ أن يظهر للإنسان حقيقته فهو قد ينخدع أحياناً لكلام معسول يقوله الناس في حقه فيظن أنه على خير وهو ليس بذاك.

2️⃣ أن يظهر للإنسان حقيقة الناس من حوله .. ومن هنا قال الشاعر:

جزى الله الشدائد كل خير

وإن كانت تغصصني بريقي

وما مدحي لها شكراً ولكن

عرفتُ بها عدوي من صديقي

3️⃣ أنها تدل على عجز المخلوق وقدرة وعظمة الخالق القهار الجبار.

4️⃣ أن بها يرجع المرء إلى ربه رجوع المضطر .. وهو أصدق رجوع .. قال تعالى: “هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ” (يونس: 22).

5️⃣ أن بها تثبت كفارات الذنوب .. فالمبتلى الصابر مغفور ذنبه.

6️⃣ أنها عنوان من عناوين تمايز الصفوف، قال تعالى:” أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” (العنكبوت: 3).

7️⃣ أننا نأخذ من خلالها العبرة بغيرنا .. ومن لا يتعلم لاشك بأنه سيتألم.

8️⃣ أن ثمة درجات في الجنة لا ينالها الإنسان بكثر العبادات وترك المنكرات بقدر ما ينالها بالصبر على الأذى والبلاء .. قال النبي صلى الله عليه وسلم:” ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ” رواه الترمذي وهو صحيح .. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ” رواه الترمذي وهو حسن.

9️⃣ أن بها تثبت أعلى القيم .. ومن تلك القيم التي تظهر وتتأكد عند البلاء والمحن:

👈 قيمة الرضا عن الله تعالى.

👈 قيمة الثقة بحكمة الله تعالى.

👈 قيمك اليقين بقدرة الله تعالى.

👈 قيمة الأخوة والشعور بالمسؤولية تجاه إخواننا المسلمين.

👈 قيمة الشكر لله بالنسبة لمن عافاهم الله .. وقيمة الصبر على البلاء للمبتلى.

✅ والمسلم لا يطلب البلاء ولا الاختبار ولا النوازل ولا الفتنة ولا المواجهات الصعبة .. لأنه لا يدري أيصبر عليها أم يجزع وينهار ويفر .. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أيُّها النَّاسُ، لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم” رواه البخاري.

✅ أما عن أسباب وقواعد الثبات عن النوازل والأزمات فمن ذلك ما يأتي:

1️⃣ الثقة المطلقة بوجود الله وقدرته وحكمته، ولنا في قصة موسى عليه السلام مع الخضر جولة تحكي الحكمة الإلهية حتى فيما يظهر لنا من أعمال شديدة َقاسية كخرق السفينة وقتل الغلام.

2️⃣ قراءة مشاهد الابتلاء عند اكتمال صورتها أو الانتهاء من رسم لوحتها .. ولك أن تنظر في مآلات الفعل الشنيع لإخوة يوسف عليه السلام وكيف أنه نتج عن ذلك الوزارة والتمكين في الأرض ولو بعد حين، وصدق الله: “إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (يوسف: 100).

3️⃣ التفكر في ابتلاءات ونوازل غيرنا ممن حولنا أو ممن سبقونا .. فهذا مما يخفف المصاب .. قال النبي صلى الله عليه وسلم لذاك الرجل الذي جاء يطلب دعاءه بقصد التخفيف من أذى قريش” قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ” رواه البخاري.

4️⃣ الوقوف على حقيقة الدنيا وأنها ليست كل شيء .. وأنها فانية زائلة .. وأنها لو دامت لغيرنا ما وصلت إلينا .. وأن الفوت والفقد والألم والحزن فيها من طباعها وخصائصها .. وأن آلامها وأحزانها وأوجاعها ودموعها تبقى فيها .. وبمجرد انتهاء الموقف ينسى الإنسان مصابه حتى لو كان ثقيلاً .. وعندما يموت يفرح بلقاء أحبابه.

5️⃣ أن يخرج الإنسان من دائرة مصائبه الشخصية لينظر في مصاب الأمة في أخلاقها واستباحة الأعداء لمقدساتها، فمن نظر في المصائب العظمى هانت عليه مصائبه الصغرى .. وقد كانوا يواسون بعضهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

اصبر لكـل مصيـبة وتجلَّد

واعلـم بأن المـرء غير مخلَّـد             

واصبر كما صبر الكرام فإنها

نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشف في غد             

أوَ ما ترى أن المصائب جمـة

 وترى المنيـة للعبـاد بمرصـد             

فإذا أتتك مصيبة تشجى بها

فاذكر مصـابك بالنبي محمـد

6️⃣ كلما كانت النوازل والمصائب متوقعة كان وقوعها أخف وأهون .. والغفلة تِنسي فتجعل المرء يأمن، والأمن المطلق لا يكون في دنيا النقائص، قال تعالى: “وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ” (الأعراف: 4) .. فجدير بنا أن نتوقع أسوأ الاحتمالات وأن نعمل لأفضل النتائج.

7️⃣ الإكثار من ذكر الله تعالى والصدقة والدعاء وأعمال البر والخير فهذا مما يثبت عند النوازل، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (الأنفال: 45)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “صَنائعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، والصَّدَقةُ خَفِيًّا تُطفئُ غضبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرَّحِمِ زيادةٌ في العُمُرِ، وكلُّ معروفٍ صدَقةٌ، وأهلُ المعروفِ في الدُّنيا هُمْ أهلُ المعروفِ في الآخِرةِ، وأهلُ المُنكَرِ في الدُّنيا هُمْ أهلُ المُنكَرِ في الآخِرةِ” رواه الطبراني وهو صحيح.

8️⃣ استشعار ماذا يعني أن تكون المصيبة والبلاء في شؤون دنيانا مع سلامة ديننا .. لأنه إذا سلم ديننا فالبلاء هين سهل .. وفي المقابل نقول: ماذا لو سلمت الدنيا وضاع الدين .. ولك أن تنظر في أحوال من فُتنوا وتاهوا وضلوا وصاروا من المرتدين .. نسأل الله العافية وسلامة الدنيا والدين، يقول محمد إقبال:

إذا الإيــمان ضاع فلا أمان

ولا دنيا لــمن لم يُحي دينا

ومن رضي الحياة بغير دين

فقد جعــــل الفناءَ لها قرينـا

9️⃣ أن نكون على يقين بأن الله تعالى لا يكلف نفساً فوق وسعها .. ولو كانت البلاءات والمصائب فوق طاقة البشر ما نزلت بهم .. وإنك ترى بعض أهل البلاء فتقول في نفسك .. كيف صبر هؤلاء؟! .. والصبر إنما يكون عند الصدمة الأولى أو في أوله يكون ساخناً ثم يبرد حتى يصير لدى المبتلى حالة من التعايش مع بلائه أو ينسى ألمه وحزنه.

وختاماً

إن أعظم تخفيف يمكن أن يواسي به المرء نفسه فيثبت بذلك قلبه عند النوازل والأزمات هو قول ما يستحضر به الرجعة إلى الله، قال تعالى: “الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” (البقرة: 156) .. وعند لقاء الله تزول الهموم وينسى المصاب والبلاء .. فنحن نحزن على من مات غرقاً أو حرقاً أو في الأمراض السارية والزلازل الشديدة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ” رواه مسلم.